هدى-المعدراني
الهوية القاتلة
في سرد "قيد الدّرس"
المؤلفة

هدى مجيد المعدراني أستاذة في الجامعة اللبنانيّة- كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، حائزة على إجازة في اللغة الإنجليزيّة وآدابها، وشهادة دكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها، عضو في لجنة قبول مشاريع الماستر في اللغة العربيّة وآدابها في الجامعة اللبنانيّة، عضو هيئة تحرير في مجلّة دراسات جامعيّة في الآداب والعلوم الإنسانيّة، وفي مجلّة سرديّات.

The fatal identity
in the "Under Study" narrative
Abstract

The research deals with the problem of the identity under study and its negative effects, as illuminated by the novel. The study focused on the imagined narrative reality that was produced by the loss of identity. Underdevelopment, deprivation, national and family dispersion, and alienation of the selfwere the consequences of this problem, so, the study shows that the only way to save this oppressed group is belonging as a gateway to cross towards success, self-estimation, andothers’ acceptance.
The study adopted the psychosocial approach as a way to reveal the problems that the characters live with and draw their steps, starting from the narrative structuralism as a basis for reading and understanding narrative texts.

Keywords
الهوية القاتلة
في سرد "قيد الدّرس"
ملخص

يتناول البحث مشكلة هويّة قيد الدّرس وآثارها السلبيّة كما أضاءت عليها الرواية، فركّزت الدّراسة على الواقع السّردي المتخيّل الذي أنتجه فقدان الهويّة، وتمثّلبالتّخلّف والحرمان والتّشتّت الوطني والعائلي واستلاب ذوات أصحاب هذه الهويّة، لتبيّن الدراسة أنّ السبيل الوحيد لإنقاذ هذه الفئة المقهورة هو الانتماء بوصفه بوابة للعبور نحو النجاح وتقدير الذات لنفسها، وقبول الآخر لها.
اعتمدت الدراسة المنهج النفسي الاجتماعي سبيلًا لكشف المشكلات التي تحياها الشخصيّات، وترسم خطاها، منطلقة من البنيويّة السردية أساسًا لقراءة النصوص السرديّة وفهمها.

كلمات مفتاحيّة:
الهويّة القاتلة في سرد "قيد الدّرس

يسهل على الباحث تحليل النّصّ الرّوائي عندما يكون على دراية بالسّرديّات الكبرى التي أنتجته، فالأدب، وإن كان عملًا تخيليًّا، هو ذو مرجع واقعي أثّر في الكاتب، وجعل النّص يبصر النّور، فالرّواية هي”الجنس الأدبي الذي يعبّر، بشيء من الامتياز، عن مؤسسات مجموعة اجتماعيّة”129، بالنظر إلى أنّها تتناول قضايا اجتماعية وتعالجها، وتتصدى لمشكلات واقعيّة، وتتخذ موقفًا منها.
وبناء على هذا قبل أن تكون “قيد الدّرس” عنوانًا للرواية موضوع الدراسة، هي مشكلة سياسيّة اجتماعيّة لها آثارسلبية على مختلف الصعد بما فيها النّفسيّ والاقتصاديّ، أفرزها النظام اللبنانيّ الذي رسم خريطته الانتداب الفرنسيّ، وأجهزت عليه بعد الاستقلال المحاصصات الطائفيّة؛ إذًا هي مشكلة أوجدها المكان والتاريخ، حيث ورد في السّرد، “معاناتي بسبب مجيء أبي.. من أرض متنازع عليها”130، هي قَدَس، إحدى القرى السبع في الجنّوب اللبناني، وهذه المعضلة ليست لبنانيّة فحسب، إنّما هي عربيّة أيضًا تحت مسمّيات مختلفة منها البدونكما في الكويت والسّعوديّة، وهؤلاء فئة سكّانيّة غير محدّدي الجنسيّة، أو عديمو الجنسيّة، لا يتمتّعون بالمواطنة، محرومون من أبسط الحقوق المدنيّة، ما يجعلهم يعانون مآسي عديدة متوارثة، ليس منها فكاك.
رسم العنوان “قيد الدّرس” درب النص، وحدّد هويّة الفئة التي يضيء عليها: فئة مقهورة، لبنانيّة الانتماء لكنها فاقدة شرعيّة هذا الانتماء، إذ تحكي الرّواية قصّة شخصيّات “لفظتهم أماكنهم الطبيعيّة، ومارست عليهم سطوتها بكلّ ما أوتيت من قوّة، فأنتجت شخصيّات هشّة ضعيفة مشوّهة مهمّشة”131، وهكذا يتبدّى للقارئ مدى عنف المكان في حياة الشخصيّات، الذي حفر فيها جروحًا عميقة الغور، لأنّ العلاقة بينهما مبنية على رفض المكان/ الوطن للإنسان، وكأنه يعاقبه، ونتذكّر في هذا المقام أنه أوّل ما خلق الله الإنسان خلقه في مكان، وعندما أخطأ عاقبه الله بإخراجه من ذلك المكان؛ عصى آدم ربّه فأخرجه من الجنّة إلى الأرض، وهكذا ارتبط الطرد بالذنب والعقاب، لكن أيّ ذنب اقترفه أصحاب هويّة قيد الدّرس ليبلسوا من نعمة الانتماء إلى الوطن؟
لم يقترفوا ذنبًا، إنّهم ضحيّة النظام اللبنانيّ، والتسويات السياسيّة، فوسمهم سلوك الوطن بصفات وأفكار ورؤى، وشكّل نظرة الآخر تجاههم، ذلك أنّ علاقة الإنسان بالمكان تتّسم بالتّلازم والتفاعل والتّأثير، فيؤثرالمكان في الإنسان إمّافي خلق السعادة والراحة النفسية والاقتصاديّة أو في الفقر والتخلّف والكآبة والحزن والتّشتّت والضياع والانحراف، لأنّ المكان يخترق الشخصيّات ويقولبها لتنضح بما يزوّدها به.
أجدب المكان/ الوطن في وجه أصحاب هويّة قيد الدّرس وسلبها الهويّة والانتماء، فهل أثّر فيها سلبًا أو لا؟ وأيّ مصير واجهت الشخصيّات نتيجة فقد الهويّة والوطن؟ وهل كان لديها قدرة على العبور؟ وكيف؟
في سبيل الوصول إلى إجابات عن هذه الأسئلة اعتمدنا في دراستنا الرؤية السّردية مدخلًا لفهم النص وتحليله، مستعينين بالمنهجين النّفسيّ والاجتماعيّ لما لهذه المعضلة من تأثيرات نفسيّة واجتماعيّة في حياة الأفراد والمجتمع.

الوطن/ الأب بين التجلي والتواري

تمتاز رواية “قيد الدّرس” بزمن خارجيّ قصير، وزمن داخليّ طويل، ومتشعّب، قوامه الاسترجاع الخارجي، ما يوحي بكثافة حضور الماضي، وأثره في تشكيل الحاضر والمستقبل؛ وإذ يبدأ السّرد في زمن الأزمة، ويحدّد السّارد التّاريخ بـ 2012، وينتهي الفصل الأخير في الزمن نفسه، تكادالرّواية، بموجبه، أن تكون ذات بنية دائريّة تماثل دائرية الحياة، التي تتألّف من حلقات متعاقبة، تمهّد كلّ واحدة لظهور الأخرى؛ إذ تتناسل حكاياتها من رحم بعضها، وهذا ما يشير إلى أنّ الحاضر والمستقبل مرهونان بالتصالح مع الماضي، وتخطّيه للتجاوز والعبور نحو غدٍ أفضل، وإلّا إعادة هذا الماضي بسلبيّاته.

وقد جاء هذا البناء للنصّ الروائي الذي يبدأ بالحاضر، ويرتدّ إلى الوراء، ويستغرق أكثر من ثلاثة أرباع الرّواية متلائمًا مع مضمونها، بعودة حسان؛ لإنقاذ الأحفاد الذين يتخبطون بمشكلات لم يشاركوا في صنعها، إنّما ورثوها عن آبائهم الذين بدورهم ورثوها عن السلف، لأنّه وبحسب ما جاء في النّص: “في الحقيقة نحن لا نشبه عائلتنا بالشكل الخارجيّ فقط، بل ربما نكرّر مواقف الحياة نفسها بشكل أو بآخر”1، وهذا يعني أنّ المرء يرث من أهله القدرات التي تمكّنه من مواجهة مصاعب الحياة، لا بل أكثر من هذا، إنّ الإنسان يعيد سيرة أبويه شقيًّا أم سعيدًا. وهنا تكمن المعضلة؛ إذ يتحدّد مستقبل الإنسان ومدى نجاحه في الحياة بالوراثة، كما في الرواية التي بين أيدينا، ما يجعل الإحباط والفشل سيدي الموقف والسمة البارزة في مسعى الشخصيّة؛ لأنً مستقبلها تحدّد قبل ولادتها، والحال نفسه في هذه الرّواية التي تتناول حياة أجيال ثلاثة، ما يجعل المشكلة، كما ذكرنا، متجذّرة ومتنامية، فبدل أن يفرح باسم بولادة ابنه أصابه القلق؛ إذ “انضمّ إلى هويّة قيد الدّرس التي ستظلّ مستمرّة، ابنه منزوع الهويّة مثله”2، وهذا يعني دخول ابنه عالم القلق والمشاكل أيضًا، وترجع أسباب ذلك إلى دواعٍ تاريخيّة وسياسيّة، ونتائجه ليست شخصيّة فحسب إنّما وطنيّة وعربيّة وعالميّة، فهي أزمة مكان وكيان لأنه “ليس البشر الذين يفقدون هويّتهم فقط، الأماكن تتجرّد قسرًا من انتماءاتها.. ماذا بقي من القرى السبع..ماذا بقي من قدس سوى اسمها؟”3.

ولعل جوهر هذه المشكلات وأُسّها هو ما يُعرَف بهويّة قيد الدّرس، وعندما تتحوّل هذه المعضلة إلى عنوان للرّواية، يكون من شأن ذلك أن يجمع في مفرداته مقاصد الكتاب ويشير إليها، وفي ضوء ذلك يستدلّ القارئ على أنّ هذا الموضوع نابع من الوحدة السّرديّة الأساس، التي تدور في فلكها باقي الوحدات، وهي المؤسّسة للبرامج السّرديّة، التي تنطلق أحداثها من معاناة الشخصيّات بوصفهم حالات إنسانيّة، تقضي عليهم هويّة قيد الدّرس، فتكون، على أثر ذلك، هويّة قاتلة.

ومع هويّة قيد الدّرس يسيطر الغياب، وتتّخذ الرّواية من الفقد مدماكًا تبني عليه عمارتها النّصّيّة؛ فقد أبويّ بمعناه الحقيقي حيث يُغيّب السّرد دور الأب وينفيه، وآخر بمعناه المجازي وهو استلاب الوطن حيث أفنى باسم، إحدى الشخصيّات الرئيسة، عمره، وهو يبحث عن الوطن، وأضاع بدوره الشخصيّات الأخرى المرتبطة به، لا سيما أبناؤه، ما يجعل الأب مرادفًا للوطن، لأنّ “الدّولة هي بمثابة الأب أيضًا”4؛ ويشكّل كلاهما حقلًا دلاليًّا للوجود بتمثّلاته الأساسيّة: الحضن، والانتماء، والهويّة، والحماية، والأمان، والاستقرار، والثّقة بالنّفس.

والبحث عن الأب الغائب المعادل للوطن ثيمة متكرّرة في الرواية العربية، فتنطلق رواية “الميراث” لسحر خليفة، على سبيل المثال، من البحث عن الأب الغائب الذي يعادل في دلالته البحث عن الوطن، وهو “بحث في حسّ الحياة، وبحث في الانعتاق، يعني اكتشاف الحقيقة، حقيقة تظهر وتتجلى بصورة دائمة الجدّة، وتضع معرفة الذات من الإنسان كائنًا حرًّا”5، والبحث عن الانتماء إلى الأب هو بحث عن الانتماء إلى أرض ووطن وجذور، لذا على أثر الفقد الأبويّ الكبيركان الغياب، بالأنواع الآنفة الذكر كافّة، أساس السّرد، مشكّلًا الخيوط التي تحبك أحداث الرّواية، وسرّ مأساة الشخصيّات؛ حين شتّت الفقدُ الذّات، وحرّك سعيها، ودفعها إلى الخروج لتعويضه، فشكّلت الرّواية رحلة مضنية للذّات، لم تصل إلى مستقرّها إلّا بفعل الانتماء وسدّ فراغ الفقد.

وبناء عليه، كان الوطن هو ما تسعى الشّخصيّة إلى الحصول عليه حتّى تحقّق الانتماءات الأخرى، ولتتمكّن من أن تعيش حياة طبيعيّة لذا لم يستطع باسم الانخراط في الحياة العائليّة عندما “انتهت الحرب تمامًا.. كان يحبّ الحياة وسط الحطام.. ربما ظلّ يبحث عن هويّته الحقيقيّة، الهويّة التي تقول إنّه لا ينتمي إلى قيد الدّرس”6.

وفي هذا الموضع نشير إلى أنّ باسم فقد الأب البيولوجي والأب الرمز/ الوطن في الوقت نفسه، كما جاء في النّصّ: “تزوّج (حسن والد باسم) من فاطمة.. وأنجب ابنهما باسم.. يموت حسن.. وفي سنة النكبة عام 1948، تهجّرت فاطمة إلى لبنان.. لم تحمل فاطمة معها أيّ وثائق تثبت زواجها من لبنانيّ وتمنح من خلالها الابن جنسيّة أبيه”7، ما يخلق إشكاليّة: أيّهما أسبق: الانتماء الأبوي أم الوطني؟ وما الذي يؤدّي إلى الآخر؟ وأيّهما أسبق: الوجود أم الماهيّة؟

يتحوّل الفقد الأبوي إلى قضيّة تحكم مفاصل السّرد عندما تنعدم معالم الرعاية الرجوليّة ويغيب الرجل الحاضن الحامي المثال الذي يتماهى به الأبناء، فالدور الوحيد الذي قام به الآباء في حياة أبنائهم هو إنجابهم إلى الحياة بيولوجيًّا، ثم عمل السّرد على قتلهم في أداء واجباتهم تجاههم حتّى أنّه حرمهم من استقبال قدومهم إلى الحياة، فيصوّر السّرد ولادة حسن وقدومه إلى الحياة على يد النساء، وهكذا”وضعت نجوى حملها.. مولودها الرابع، نبّهت أمّها التي أيقظت بالتالي قريبتها نجمة.. وأسرعت إلى بيت رضيّة.. وصعدت هي ونجوى ورضيّة إلى سيارة “بيك أب” حمراء متهالكة كانت تقودها ريما ابنة رضيّة”8.

تظهر الحادثةُ الاختفاء الكلّيّ للرجل الذي يُلزمه العرف والتقليد أن يتولى مهام أخذ المرأة إلى المستشفى، ما يشير إلى خلل في بنية المجتمع العلائقيّة؛ لأنّ المجتمع السويّ يقوم على الرجل والمرأة، لا على واحد منهما فقط، وإلّا سيكون المجتمع ناقصًا ومشوّهًا، وهذا ما هو الحال عليه، بحيث لم يكن هذا الغياب قسريًّا أو آنيًّا، بل هو عام وشائع في كلّ تضاعيف السّرد، إذ يلحظ القارئ غياب والد سعاد الذي كان يقضي أيّامه في العمل بعيدًا من ابنته فلم”تجد من يوجّهها ويرعاها”9، والحال نفسه يتكرّر مع نجوى، حيث ظلّت صورة الرجل في ذهنها “مهتزّة، بين أب دنجوان.. وبين زوج غير عاطفي غادرها بعد ثلاثة أيّام من الزواج، وظلّت علاقتها بهما موسومة بالفتور”10، كذلك الأمر مع باقي شخصيّات الرّواية كنجمة وابنتها ورضيّة وملكة.. فيتشاكل الغياب مع الرجل ليشكّلا ثنائيّة متلازمة، وإن حضر الرجل فيمت أو يظلم؛ فما إن يغفر والد سعاد لابنته هروبها مع عوّاد حتّى يموت ويضع أخوها “أحمد يده على ميراثها”11، ويحرمها من نقود أبيها ويتركها أسيرة العوز والفقر، ويتكرّر الظلم ليأخذ صفة التعنيف الجسدي مع حميد زوج ليلى، الذي كان يستعذب العنف وينهال “عليها بصفعات من دون وعي”12، وتبقى صورة الرجل قاهرة غير حاضنة في حياة المرأة؛ فيتوارى ربيع حبيب ليلى، ويبتعد من تحمّل المسؤوليّة، ويهجرها من دون سبب، ومن دون إعلامها برحيله، تاركًا إياها تخطئ في حقّ نفسها بسببه، وهو ما يوضحه الراوي: “سيعرف ربيع أنّها تزوّجت بعد أسبوعين من دون أن يدرك حقًّا أنّها للمرة الثانية تهرب بسبب جرح كان هو السبب فيه”13.

ولعلّ التأثير الأبوي الأكبر كان في الحضور والغياب الذي مارسه باسم،وشكّل العقبة الأساس في الحياةالطبيعيّة لأبنائه، ما أدّى إلى تمزّق الذّات وتشتتها وضياعها”مع أب مجهول المصير، عليهم تدبّر حياتهم من دونه، وتقبّل لعنة حضوره وغيابه”14، وهذاعوّقالنموالطبيعيلهويّةأبنائهالفرديّةوالاجتماعيّة وذلك لأنّ الهويّة الفرديّة الشخصيّة التي تحدد الفرد بوصفه كائنًا مستقلًّا يحمل سمات وصفات تميّزه من غيره بحاجة إلى مثال يتماهى به الأبناء، وهذا المثال كان مفقودًا، الفردييعيلهويّما يدفع بابنه حسّان إلى التمنّي”لو كان لطيف خزندار أبي لأنّي لم أجد أبي في أيّ موقف مشابه ساندني فيه لطيف”15، لأنّ باسم حرم أبناءه، عن قصد أو من غير قصد، الدور الأساس الواجب عليه القيام به، وهو الحماية والإرشاد والاحتضان والتماهي والافتخار به؛لأنّ الأب، بعامّة، هو البطل في نظر أبنائه، وهو القائد الذي تُحلّ المشكلات الجسيمة بوجوده، لكن هذا كلّه لم يحصل لأبناء باسم الّذيظلّ صورة للوجود القلق والمتوتر في حياتهم؛ فلم يستطع حسان تخطّي غياب والده، وظلّ أسير”أحلام مؤلمة تنتهي غالبًا بركضي وراءه لمسافات طويلة، ثم سقوطي من مكان مرتفع، تلك الأحلام كانت تستدعي في داخلي سؤالًا واحدًا: هل هو ميت أم حي؟”16،وهكذا يبرز الأثر السلبيّ لعدم حضور الأب،ليس على الصعيد الماديّ فحسبحيثلم يكن للأسرة معيل، ما دفع حسّان وليلى إلى فقدان الطفولة والعمل في سن مبكّرة، إنّماخلّف عدم وجودهقلقًا نفسيًّا، واضطرابًا عاطفيًّا، وشعورًا بالهزيمة، ويتمًا حقيقيًّا، فتقول ليلى:”بدأ انكساري منذ أدركت أني شبه يتيمة في هذا العالم، الإحساس باليتم ليس له علاقة بالوجود البدني للأبوين، فما فائدة الوجود المادي مع غياب الغاية الحقيقيّة منه”17،وبذلك تهتز صورة الأب المثال، ما يجعل الأبناء في حالة غضب دائم، وسخط على هذا الأب، فيقول حسّان:”كنت أنوي كشف قناعه أمام نفسه، ومواجهته بضعفه وتخاذله بنكران أبوّته!”.18

لكنّ باسم كان جانيًا في حق أبنائه، ومجنيًّا عليه في الوقت نفسه، فهو أيضًا كان محرومًا من أبوّتين:الأب البيولوجي والوطن، وما هجرانه أبناءه إلّاسعيّ إلى الحصول على أبوّتهالمفقودة، بخاصةإنّه كان يريد استرجاع”الهويّة التي تقول إنّه لا ينتمي إلى قيد الدّرس”19؛لأنّ فقدان الهويّة المكانية كوّنمنه شخصية ضائعة،ومشتّتة، غير قادرة على الاحتضان؛فهي نفسها غير محتضنة، لذا أخذ باسم يبحث في الانتماء إلى الوطن بديلًا عن الأب البيولوجي الذي حرمه إيّاهالعدوالصهيوني باحتلال فلسطين، وتهجير الفلسطينيين، إضافة إلى النظام اللبناني وقوانينه التي حرمته الجنسية اللبنانيّة، ولا يخفى ما في الأمر من أسباب سياسيّة”لأنّ كلّ هويّة جاءت نتيجة فعل سياسي أصلًا”20،وذلك للحفاظ على التوازن الطائفي وهذا إجحاف من الوطن وسياسته بحق أبنائه؛لذا راح يقاتل مع المقاومة الفلسطينية من أجل استعادة أرضه،وبالتالي استعادة نسبه الضائع، وأبوّته المسلوبة.فهل جاءت صورة الأب باهتة غائبة لأنّ الوطن كان غائبًا، ما أدّى إلى تشتت الهويّة ومسخ الرجولة، فكبّل فقدان الوطن الرجل، وجعله أسير الحصول على وثيقة اعتراف بانتمائه إلى العالم الأكبر ليتمكن، بعد ذلك، من بناء وطنه الصغير/ العائلة؟ أو هل عدم وجود الأب سبب المأساة الحقيقيّة بمعزل عن وجود الوطن، فالأب هو السند والعمود والمثل الأعلى، ورمز الرجولة والكيان الواحد الصلب؟ إذ خلف كل مأساة يكون”غياب الأب هو السبب القوي المباشر.. هو ليس مجرّد ساق ثانية تمشي عليها الأسرة مع الساق الأولى(الأم)، إنّه العمود الفقري الذي يصلب حيل العائلة ويجعل منها كلًّا متماسكًا”21،وتبعًا لذلكفإنّتواري الأب وعدم قيامه بمهامه يعد مشكلة لا يمكن أن تمرّ من دون خلق أزمة في الأبناء، وفي هذا يقول كافكا في رسالته إلى والده:”إنّني لم أصبح ما أصبحته إلّا بتأثيرك”22،والحال نفسه مع شخصيّاتالرّواية؛كان باسم سبب عذابات أبنائه وضياعهم، فتقول ياسمين:”العهر الأكبر حين غادرنا أب لم يبال بترك عائلته وحيدة وسط الفقر والحاجة”.23

وهكذا يُشكّل الإهمال والعنف الأسري متتالية سردية متكرّرة لتتماهى وتنسجم مع الوحدة السردية الكلّية للنص، وهو العنف الذي يمارسه الوطن في حق أبنائه، وكما يجني الرجل في حق أبنائه، يجني الوطن فيحقّ مواطنيه، مايجعل وجودهم مؤذيً الأنه وجود غير فاعل، لم يكن طبيعيًّا بمعنى أنّه لم يتحلّ بالسمات الأساسيّة التي يجب أن تكون متوافرة فيه فلم يكن حاميًا أوحاضنًا، حرم الرجل، وبخاصّة الأب، الشخصيّات من عاطفته ورعايته، كذلك فعل الوطن الذي حرم أبناءه الجنسيّة/ الهويّة، أبقاهم الأب على هامش حياته، والأمر نفسه بالنسبة إلى الوطن، فعاش أصحاب هذه الهويّة مهمّشين.

وعلى هدي ما سبق كيفما يقلّب الباحث النص السّرديّ يجد نفسه أمام قضيّة مركزيّة هي الفقد الأبوي والوطني، ليعادل الأب الوطن، ويصيرا واحدًا في أثرهما في الشّخصيّة. وعلى هذا تنطق الرّواية بلا مقول مفاده إنّ فقدان الحضن الأبوي يؤدّي إلى الضياع، والأمر نفسه بالنّسبة إلى فقدان الوطن، لذا كلاهما يسبّب اليتم، والشّخصيّة السويّة بحاجة إلى تحقيق الذّات داخل الأسرة والوطن لتنطلق بتفوُّق، وتمضي بثقة نحو الآخر والعالم، لذلك يجد القارئ أنّ باسم وأبناءه كانوا يعيشون الاغتراب عن الذّات، ولعلّه السبب في كلّ اغتراب،لاسيما الاغتراب عن المجتمع، فكانوا يعانون فقدان الانتماء وفقدان الاعتراف بهويّتهم الاجتماعيّة والوطنيّة، ما جعلهم غير منخرطين في المجتمع الذي يعيشون فيه. والمقصود بالهوية الاجتماعيّة “السمات الخاصة بمفهوم الذات الفردي في ضوء أسس ومرتكزات لجماعتهم الاجتماعيّة، وعضويّتهم الطبقيّة معًا ومع ارتباطاتهم العاطفيّة والتقييميّة وغيرها من الارتباطات السلوكيّة التي تربطهم بهذه الجماعة مؤكّدة انتماءاتهم إليها”24.

وفي ضوء ذلك، يلتبس الأمر على القارئ في تشكّل هويّة باسم: هل وجود باسم الإنسان (الماهية) سبق هويته أو وُلدا معًا؟ يمكننا أن نجيب عن هذا السؤال فيما يخص ليلى وحسّان، حيث قدّم السّرد ذلك مباشرة على لسان حسّان: “تشكّل الوعي بالهويّة لديّ أنا وليلى مع سنوات المراهقة”25، وهذا يتطابق مع ما قاله حسن حنفي: “يأتي الوعي الذّاتي بعد الوجود البدني، ثم يأتي الوعي بالعالم المحيط، وينشأ التساؤل عن الهويّة”26، لكن فيما يتعلّق بباسم يختلط الأمر على القارئ الذي يشعر بأنّ التساؤل عن الهويّة وُلِد معه، إذ وجوده محرومًا من الأب جعل البحث عن الهويّة مرافقًا لوجوده البدني.

ويمكننا -في هذا المقام- ربط ما حصل مع باسم بما جاء لدى أريكسون الذي حدّد ثماني مراحل متتابعة ومترابطة يمرّ بها الفرد خلال عمليّة نموّه النفسي والاجتماعي، ولا يمكن العبور إلى المرحلة اللاحقة من دون اجتياز المراحل السابقة، والإخفاق في مواجهة أزمة في مرحلة ما يؤدّي إلى آثار سلبيّة تنعكس على شخصيّة الفرد وتعوّق اجتيازه للمراحل اللاحقة27،وبناء عليه فإنّ تجربةباسم، الذي فقد الصّون الأبويّ والذود الوطنيّفي طفولته،وعاش مع أمه التي”ظلّت تتنقّل مع ابنها من مكان إلى آخر.. وعجزت عن إثبات هويّة ابنها اللبنانيّة”28، خلقت لديه عدم ثقة بالبيئة المحيطة، وتمرّدًا عليها، ما حفّزه للبحث عن البديل، والبديل الطّبيعيّ والمنطقيّ لكلّ إنسان هو أن يكون له وطن وجنسيّة وجذور، لذلك سلبه البحث عن الوطن الاهتمام بالعائلة، فكان اللاوعي يدفعه إلى تثبيت الانتماء إلى المكان لتتحقّق له الثقة بالذّات، والمصالحة معها ليتمكن من العبور نحو الآخر.ولمّا أخفق باسم في الحصول على الهويّة أصابه الكمون، فاستقرّ في هذه المرحلة، وعانىالتّشتّت والضياع، ولم يتمكّن من الانتماء إلى أسرته،كما أنه لم يستطع أن يعطي أبناءه ما يفقده، لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه، لذلك فإنّ هذه الشخصيات، وبحسب نظريّة ماسلو، التي فقدت الحاجات الأساسية في الأمان والانتماء عجزت عن تحقيق الذات فآثر باسم الاختفاء وضاع الأبناء.

إضافة إلى ماسبق، يمكننا أن نشير، وبالعودة إلى أريكسونأيضًا، إلى أنّ المراهق عامّة يسعى إلى تأكيد هويّته؛ لذا انخرط باسمبالمنظّمات الفدائيّة لتحرير فلسطين وجنوب لبنان علّه يؤكّدهويّته اللبنانيّة، ويتخلّص من هويّة قيد الدّرس، لكنه فشل في ذلك، وبقي موضوع الهويّة ملتبسًا، وهذا ما أدى به إلى الإخفاق في إقامة علاقات أسريّة واجتماعيّة سويّة، ولم يستطع أن يُمتّن العلاقة الأبويّة مع أبنائه فآثر العزلة ثم الهرب.

واستنادًا إلى ذلك، يكون فقد الوطن لدى باسم هو السبب المباشر في العجز عن القيام بدور الأب، وكما قدّمنا سابقًا في مستهل هذا المبحث، لعلّ البحث عن الوطن المسلوب هوبحث عن الأب المفقود أيضًا.

أمّا بالنّسبة إلى الجيل الثاني المتمثّل بحسّان، فإنّ حصوله على الهويّة اللبنانيّة، وإن مرّ ذلك بطريق وعر، وأنتج أزمات كثيرة، مكّنه من تبنّي دور الأب للطفلين: سامي وأنس المحرومين من الأب الحقيقي. ولعلّ مبعث هذا الخيار في احتضانهما يعود إلى معرفته أهميّة الأب في حياة أبنائه، وهذا ما عانى حسّان من فقده كثيرًا، ويعود الفضل في ذلك إلى دور الأسرة، وبالتحديد دور الأم الحاضنة والمربّية.

وفي هذا الموضع نقول: وإن حصلت الشخصيّات على الجنّسيّة اللبنانيّة بالصدفة وباتفاق سياسي، فالمرأة/الأم لم تكن حاضنة بالصدفة وبدت معالم القيادة الأسريّة، والاحتضان العائلي مع الجدّة سعاد، ولم تكن الوحيدة التي اهتمّت بأسرتها، فزلفا حضنت ابنتيها، وخديجة ربّت أولادها، ومع ضعف نجوى لم تترك أبناءها، ونجمة رعت ابنتها،وليلى أخذت ابنها بعد الطلاق، وهكذا أظهرت تضاعيف السّرد الأم بوصفها الحضن والسند في ظلّ غياب الأب، ومثّلت العنصر الأساس للقيم، فدفعت نجوى بأبنائها إلى العلم والأمل، وعدم اليأس، وكانت تبثّ في نفوسهم روح الحماسة لتخطّي الصعاب، والقدرة على الصمود في مواجهة أنواء الحياة، وأعادت خلق الأبوّة المسلوبة في داخلهم، فعلى الرغم من تشظي الذّات لدى حسّان وتشتّتها، وفقدان الإيمان بالأب والوطن، استعاد الإحساس بالمسؤوليّة، ووعى الانتماء الوطنيّ والإنسانيّ والأبويّ، فما كان منه إلّا أن تبنّى رعاية سامي وأنس، وآثر البقاء بجانبهما خوفًا عليهما من الضياع، وبهذا تكون التربية السليمة قد أعادت إنتاجه أبًا، ليكون الأب هذه المرة مسؤولًا لا يهرب من المسؤوليّات الملقاة على عاتقه، وبهذا يكون حسّان قد شُفي من عقدة الفقد التي كان يحياها، ولم يبق أسير الاستلاب.

وفي المحصلة نشير إلى أنّ السرد يعزز من أهميّة الانتماءين الوطني والأبوي، ذلك أنّ باسم فشل في مَهمَّته، وتلاشى من حياة أولاده بسبب فقدان الهويّة التي توثّق الانتماء الوطني، في حين نجح باسم في تبنّي أبوّة الطفلين لأنّه حصل على الهويّة اللبنانيّة، أيّصار لديه صكّ اعتراف بوجوده وانتمائه، لذا خوّلته الهويّة والاعتراف بانتمائه القدرة على احتواء الطفلين ومنحهما الأبوة بالاهتمام والتنشئة مع أنه ليس الأب البيولوجي لهما.على هذا تنطق الرّواية بلا مقول هو: إنّ الهويّة الصلبة هي نتيجة أبوّة حاضرة فاعلة: أبوّة وطنيّة، وأخرى بيولوجيّة، ومع غياب هذه الأبوة تتشتّت الذّات وتتعرّض للضياع والاستلاب.

    استلاب الذات

غالبًا مايفرض المكان سطوته على النّاس، ويشكّل هويّاتهم، حتى لو كان ذلك من”دون وعيٍ”29 منهم، ويفرزهم إلى شقيّ أو سعيد، ساعٍ ناجح، أو متخاذل فاشل؛ لأنّ الحياة”مرهونة بالمكان”30، الّذيأورث الشخصيّات”ما عرف بهويّة قيد الدّرس.. حيث بات هناك نحو 30 ألف عائلة لبنانيّة قيد الدّرس”31، تلك الهويّةكانت مرادفة للأزمات الاجتماعيّة والنفسيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والإنسانيّة؛ إذ عانى أصحابها من صعوبات متعدّدة تبدأ بالذّات، ولا تنتهي بالمجتمع، بل تتعدّاه إلى العالم الأوسع، فيضيق العالم ليصير تفاعل الذّات معه من خلال تلك العقد النفسيّة والاجتماعيّة، التي بأرتها عميقًا هويّة قيد الدّرس، وترسّبت في الوعي واللاوعي.

يرسِّخ السرد أولى أزمات هذه الذّاتفي البيئة المتخلّفة التي أنتجتها، وازدادت تخلّفًا من جرّاء هذه الذوات، ذلك أنّ العلاقة بين الإنسان والمكان هي علاقة تلازم وارتباط وتأثر وتأثير، فلا يتوقف حضور المكان على المستوى الحسّي إنّما يتغلغل عميقًا في الكائن الإنسانيّ فيعزّز انتماءه أو يغيّبه، ويقضي عليه.

استقطب دير السرو، المكان الرئيس في الرّواية، عددًا غير يسير من أصحاب هويّة قيد الدّرس، حيث تشكّل المكان من تجمّعات سكنيّةعفويّة غير منظّمة، وكانت المنطقة ملجأ المشرّدين”يلجأ إليه الفدائيّون والمنفيّون، والفارّون من بلدانهم”32، ما أدّى إلى وجود حزام فقر يمثّل بؤرة بؤس، تتألّف من بيوت مليئة بالتصدّعات والخدوش ذات أسقف صفيحيّة، وجدران شاحبة، وشبابيك وأبواب تآكل خشبها لتتماثل مع الذوات المهشّمة التي تسكنها، والتي تعيش واقعًا متصدّعًا، وانتماء متشظّيًا معطوبًا سواء على الصعيد المادي أم الجسدي والنفسي، إذتدفع هذه المنطقة من يعيش فيها إلى الشعور بأوجاع وأمراض وأسقام لا يبرأ منها، فيقول السارد: “تلك الشتاءات القاسية التي أمضوها في دير السرو ستترك لديهم أوجاعًا أبديّة لا ينفع معها دواء”33إضافة إلى عقدة نقص تتأصّل داخل الذّات، لا يخفّف من وطأتها التفوّق المدرسي، فتخجل ليلى من واقعها: “في المدرسة، يُعلّق الناظر اسمي في لوحة الشرف بعد حصولي على أعلى الدرجات، لكن، حتّى هذا الحدث لم يخفف من خجلي الشديد حين يقف الباصّ أمام بيتنا.. ذي السقف الصفيحيّ”34.

يؤدّي هذا الواقع المتشكّل في الرؤية السردية إلى خلق سيكولوجيّة محدّدة تسيطر على البدو سكّان دير السّرو، وهي عدم الاهتمام بالبنى الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة القائمة على أساس الانتماء للوطن وللسلطة المدنيّة التي يعيش المرء في ظلّها، وتوفّر له الأمان والطمأنينة.

ولمّا كان البدو محرومين من الجنّسيّة اللبنانيّة نما انتماؤهم إلى العشيرة التي يحتمون بظلّها، ويدين الجميع بالولاء لزعيمها، والتبعيّة المطلقة له، ولا يحقّ لجهة أن تعارض قرارات العشيرة، لأنهم لا ينتمون للدولة، إنما كما تقول ليلي:”جيراننا البدو ينتمون للعشيرة”35، لذا أوجدوا قوانين تحكم علاقاتهم لا حبًّا بالقانون إنّما للحفاظ على سيرورة العيش، والعشيرة لا تهتم بتطوير الاقتصاد المبنيّ على أسس منهجيّة لغايات بعيدة الأمد.

بناء عليه، راح البدو يعتمدون في معيشتهم على الزراعة ذات المردود الضئيل لاستخدامهم الوسائل البدائيّة التقليديّة، وقلّت الحرف والمهن الصناعيّة التقليديّة والحديثة لأنّهم وليدو بنية اجتماعيّة تتّصف بالجمود غير قابلة للتغيّر، وفي ظلّ عدم الاستغلال الصحيح للأرض، وعدم نماء الحرف والمهن”تزداد نسبة النشاطات الطفيليّة التي يمارسها سكّان أحياء البؤس، نشاطات تهدف إلى الارتزاق تبعًا للظروف، وكيفما تيسّر، بشكل تختلط فيه الأعمال المشروعة بالنشاطات المخالفة للقانون”36، ودير السرو ليس استثناء، فتنشط التجارة فيه “لكن في الخفاء تُعقد صفقات تهريب المخدّرات”37،يسيطر على هذه النشاطات في دير السرو، وبالتّحديد على تجارة المخدرات، قلّة من البدو يتزعّمهم جاسم الشمّري، ويترأّس عشيرة البدو، ويدير شؤونهم، ويحمي مصالحهم، ويحظى باحترامهم وتقديرهم، ويكون”راعي النسوان”38، وفي هذا استلاب لحقّ الإنسان في إدارة شؤونه بنفسه، وبالتحديد للمرأة، كأنّه يعدّها قاصرًا لا تستطيع أخذ قراراتها بنفسها، أو كأنّه يمارس في حقّها وحقّ المجتمع الذي تنتمي إليه قانون الكفالة، حيث تكون الحماية مقابل الولاء والتبعيّة، ونظام الكفالة تناهضه جمعيات حقوق الإنسان لما فيه من استغلال وامتهان للمرء 39.

ولعلّ هذا الخروج عن القانون مرتبط بهويّة قيد الدّرس التي تقف حائلًا ومانعًا في طريق حصول أبناء البدو على وظائف تدرّ عليهم مدخولًا لائقًا؛فلا يحقّ لحاملي هذه الهويّة الانخراط في الوظائف الحكوميّة أيًّا كان نوعها وفئتها، وهذا من شأنه أن يقلّل أهمّيّة التعلّم بالنّسبة إليهم لأنّه غير مجدٍ عمليًّا ومعيشيًّا لذا “التّعليم ليس هاجسًا أساسيًّا عند أيّ من سكان البدو”40، فتتفشّى الأمّية والجهل. نتيجة ذلك يصير التخلّف نمط حياة البدو في دير السرو، يعيشون مستسلمين راضين غير واعين للقهر الذي يصبغ حياتهم، ويخيّم عليهم، وعلى أطفالهم، والذي فرضته عليهم السّلطة اللبنانيّة عندما حرمتهم من الهويّة (الجنّسيّة اللبنانيّة)، فلا يتمتّعون بأيّ تقديمات اجتماعيّة حيث لا يوجد في دير السّرو “مدرسة أو مستشفى أو جامع، ولا مرافق صحيّة”41.

على هذا يبدو دير السّرو خارج الدّولة اللبنانيّة، كأنّه عالم قائم بذاته، مغلق عن التطوّر الخارجي الذي يجهله، لذلك لم ينشأ لدى البدو،حتّى بعد حصولهم على الجنّسيّة اللبنانيّة، سعي إلى تغيير الواقع الاجتماعي حيث نشأوا، فبقيت المنطقة تغرق في التّخلّف: “كلّ الأشياء التي ينبغي تغييرها لا تزال على حالها، الأرض غير مسفلتة ومليئة بالوحول، التمييز الاجتماعيّ ضدّ البدو ما زال على حاله.. الأطفال يذهبون إلى المدرسة في المرحلة الابتدائيّة كي يتمكّنوا من القراءة والكتابة والحساب، والرجال يعملون في نقل الخضروات وفي ورش البناء، وفي الحقول الزراعيّة.. والنساء ينظفن البيت، ويعتنين بالأطفال، ويصنعن المؤن لبيعها لنساء بيروت”42.

وإذا كان هذا هو الواقع الاقتصادي، فالواقع الاجتماعي ليس بأفضل، إذ تتصف البنية الاجتماعيّة في دير السرو بالقمع، والقهر، والرضوخ للتّسلط والحرمان من الحقوق الإنسانيّة بمعنى تجريد الإنسان من إنسانيّته. وإن كنّا لاحظنا فاعليّة للمرأة البدويّة، فهذا كان في الأمور الثانوية، إنّما في المجمل كانت المرأة خاضعة للرّجل، كأنّها أحد ممتلكاته، وهذا ما جعل ليلى تتزوج حميدًا خوفًا من جاسم الشمري الذي كان يفكّر”في ضمّها إلى قائمة زوجاته”43، فيبدو من هذا المنظور عالم دير السّرو”عالم فقدان الكرامة الإنسانيّة بمختلف صورها”44، المرأة فيه سلعة، والإنسان أداة ليس له رأيّ، وهذا هدر لقيمته. وهنا نلحظ تشابهًا بين التشييء في مجتمع ما بعد الحداثة وتشييء الإنسان في المجتمع البدوي؛ففي المجتمع البدوي الإنسان نكرة تتحكم العشيرة بحياته، وفيما بعد الحداثة هو رقم لصالح الآلة وهيمنتها وسيطرتها. ليس هذا فحسب بل إنّ وجود الإنسان في المجتمع البدوي هو وجود اعتباطيّ، يشكّل عبئًا على والديه، وُجد بالصّدفة،وهذا ما يشعر به باسم تجاه أولاده، وتعبّر عنه ليلى: “وجودنا يزيد من إحساسه بالعبء، يعاملنا كلقطاء، مثل كائنات فُرض وجودها عليه فرضًا”.45 ليس هذا شعور باسم فحسب، بل تشعر نجوى بأنّ أولادها أحالوا حياتها إلى جحيم، فتتأفّف من وجودهم، وتراهم علّة”وجودها في هذا المكان، وفي بقائها زوجة لرجل مقاتل”46، ولعلّ السبب الحقيقيّفي ذلك هو القهر النّفسيّ الذي كان يعانيه كلّ واحد منهما، وكأنّ العذاب هو قدر حامل هويّة قيد الدّرس.

وفي ظلّ غياب الوعي الثقافي، وسعة مساحة القهر، يجنح البدو تجاه التّفكير الخرافيّ بوصفه وسيلة لا واعية منهم لتخفيف صعوبات الحياة وتقبّلها، وهذا من شأنه أن يضعف أواليّات التحليل المنطقيّ والحسّ النّقدي بسبب التّغاضي عن الحقائق الموضوعيّة، وإلصاقها بالجنّ والسّحر، فيعيشون وهم سيطرة الجنّ والأرواح على المصير، وتشيع الخرافة والتّسليم بالغيبيّات والعالم الماورائي، ويصير الشّبّان والشّابّات في دير السّرو عرضة للاستغلال من أيّ شخص يمتهن الشّعوذة؛ إذ يظنّ الشّباب أنّ مسائل الحبّ والخطوبة والزواج وما يلازمها من عقبات ملتصقة بأعمال الجنّ والحسد؛ واستغلًالا لهذه الظاهرة “تعلّمت نجمة بعض التّعاويذ والتّمائم من الشّيخ الجنزوري، لتداوي بها البدويّات”47، ومارست السّحر، وصارت تتلاعب بمشاعر الشّباب، وبدأت استقطاب النّاس وسلبهم أموالهم على أمل الخلاص من أرزاء الحياة، وطوّرت عملها وتحالفت مع مشعوذين آخرين وتجّارًا، وصارت تتوسّل مواد وأدوات وطقوسًا وأدعية توظّفها لتبهر الضّحيّة الذي بدوره يغدق عليها الأموال ظنًّا منه أنها لن تردّه خائبًا، والحقيقة إنّ باعث هذه المشكلات هو الانعزال الاجتماعي، والتقوقع، وتحكّم العشيرة بحياة الأشخاص، فيكبت المرء مشاعره، ولا يجرؤ على الإفصاح عنها، والمجاهرة بها، فتنتشر الرّذيلة سرًّا، ويكثر الطلاق، ولا يتمّ التحقيق في الجرائم التي يعزوها أهل تلك البيئة إلى الأشباح والأرواح الشريرة، فيموت فاضل رضيّة على أثر تناوله، عن جهل، المخدّرات، ويعزو الجميع موته إلى الرّوح الشّريرة التي تحيط بالدّير، ولا يصدّق أحد من البدو رضيّة التي”شاهدت رجالًا ملثمين ينقلون بضاعتهم التي خبّأوها تحت الأرض”48.

ووراء هذا التّفكير السّاذج، والإدراك السّطحي المدمّر يكمن تخلّف البدو، ويتبدَّى عدم الشّعور بأولويّة التعلّم، الذي يُعدّ السّبيل الوحيد للقضاء على الخرافات، وعلى جمود المجتمع الخاضع لسياسة القهر من خلال هويّة ناقصة لم تتِح له فرصة التّطوّر والنّماء. وعلى الرّغم من قضاء حسّان وليلى زمنًا طويلًا في البيئة نفسها، ومع الجروح التي أحدثتها هويّة قيد الدّرس استطاعا أن يتغيّرا، وشقّ كلّ واحد منهما طريقه في الحياة، ونجح، وكان العلم الوسيلة الرئيسة في تحقيق ذلك؛ فحسّان تعلّم وتخرّج في الجامعة، وليلى عملت ومكّنت نفسها، واتّخذت الطّهو مهنة لها، وطوّرت قدراتها ونجحت وأبدعت. أما البدو فظلوا على حالهم في مجتمع زراعيّبدائيّ تقليديّ، لم يطوّروا وسائلهم لأنهم لم يطوّروا أنفسهم، ولا قدراتهم وطاقاتهم، وبذلك نستنتج أنّ “التنمية البشريّة.. أداة وشرط كلّ تنمية اقتصاديّة وتكنولوجيّة”49. وبالنظر إلى ذلك ينطق النصّ بلا مقول، مفاده أنّ الحرمان من الهويّة لأجيال متعاقبة يسلب الشخص القدرة على امتلاك زمام مصيره وعلى التغيير، لكن المفتاح الأساس والوحيد للتحرّر من التخلّف الذي ينتجه واقع الحرمان من الهويّة هو التعلّم وتمكين الذّات رجلًا كان أم امرأة.

وهناك أزمة أخرى تواجه سكان دير السرو؛ إذ يعيشون في حالة تعبئة دائمة واستعداد مستمّر للصراع، فتعيش الشّخصيّات حالة توتّر مطردة لأنّ المشكلات متواصلة، ومن المحتمل لأيّ جدال أن يفجّر مشاجرة، بما يصحبها من خطاب لفظي عنيف، قد يتطوّر ليتحوّل إلى تهديد ووعيد، وإلى ضرر جسدي ومادي جسيم، وهكذا استيقظت عائلة نجوى ذات يوم”على رائحة نيران تحاصر بيتنا”50.

هذ التّخلّف يخلق مشكلات في داخل الذّات، وبين الذّات والآخر، وتبدو المعضلة الأساس التي تواجه أصحاب”قيد الدّرس”عدم اعتراف الآخر بانتماء الذّات، لتعني هويّة قيد الدّرس في اللامقول إنّ الإنسان الذي يحملها له وجود بالقوة لا بالفعل، وما زالت الدّولة تدرس إمكانية الاعتراف بوجوده، فالإنسان الذي يحملها هو قيد الدّرس في احتمال إثبات الوجود الفاعل. وهنا يبرز تعامل الدّولة بدونية مع صاحب هذه الهويّة، فتقلّل هذه الهويّة من شأنه، لأنّ وظيفة الهويّة أو البطاقة الشّخصيّة بعامة التّعريف بالشخص، ومنحه امتياز المواطنة بما فيها من حقوق وواجبات، أمّا بطاقة قيد الدّرس فتجرّده من أيّ حق، لا بل تجرّده من الوجود الحقيقي المؤثّر، وهذا ما يؤدي إلى شعور الذّات بالنقص يقابله استعلاء من الآخر لا تخفّف العشرة وطأته، إذ لم “يسهم مرور الزمن من تشكيل علاقة ألفة بين البدو والفلّاحين من ملّاك الأرض –في دير السّرو– الذين ظلّوا ينظرون للبدو بدونيّة”51، وهذايسبّب تهميشًا للذات، وإنكارًا لوجودها، وهكذا تُواجَه ليلى بالنكران واستبعاد زملائها لها، وعدم المساواة، والنظرة الدونيّة تجاهها، فيهينها أحدهم:”أنتم مش معروفين من وين.. هجين.. بكيت وأنا أقول بأنّي لبنانيّة”52، والحال نفسهاتتكرّر مع حسّان،حين يرفض والد ياسمين تزويجها له أو كما جاء في النص: “لشاب يحمل هويّة قيد الدّرس، لشاب بلا هويّة، غير معروف من أيّن جاء”53، وهذا خلل في علاقة الآخر بالذّات، و”تتحوّل معه العلاقة إلى فقدان الإنسان بالإنسانيّة، وانعدام الاعتراف بها وبقيمتها، وتنعدم علاقة التكافؤ لتقوم مكانها علاقة التشيّؤ”54، ما يعيد إلى أذهاننا علاقة السيد بالعبد، فلا اعتراف بقيمته أو بوجوده، ويصبح كلّ ما يتعلّق به مباحًا وعرضة للإهانة والذلّ والاحتقار أمام تضخّم ذاتيّة الآخر المتسلط، لذا تتعامل زوجة أخ سعاد مع الأخيرة وابنتها كأنّهما نكرتان، ولا تهتم لمشاعرهما، وترسل “إلى سعاد في عقر دارهالمّي بنتك عن ابني، أنا ما بجوزه بنت الكردي”55، وكأنّ زوجة أخ سعاد تحاول تغذية نرجسيّتها على حساب سعاد ونجوى المستضعفتين، فتعاني كلّ منهما التعسّف والتعنيف والتبخيس والتنمّر، ولا يكتفي الآخر باحتقار الذّات بل يعمد إلى نبذها وإقصائها، فتصير “سعاد وأولادها الثلاثة شبه منبوذين من عائلتها”56، ما يفضي إلىشعور بالنقص لدى الذّات يرافقها مدى الحياة، وكأنّهويّة قيد الدّرس وصمة عار لا تستطيع الشّخصيّة منها فكاكًا، وهكذا”ظلّت كلمة بنت الكردي.. ترنّ في أذن نجوى.. حتّى بعد موت عوّاد”57.

إزاء هذا الواقع، تعيش شخصيّات الرّواية، أصحاب هويّة قيد الدّرس مآسي عديدة، تحاول التّصدّي لها بأواليّات دفاعيّة تختلف من شخص إلى آخر؛ ففي حين بأن الرضوخ والاستكانة صفتان ملازمتان لهذه الشّخصيّة كما بيّنا آنفًا إذ لم يحاول أحد من سكّان البدو النّضال للخروج من هذه البوتقة، أو للحصول على هويّة لبنانية،وكذلك الأمر بالنّسبة إلى أولاد باسم، فلم تقم أيّ شخصيّة بأيّ دور كفاحي للحصول على الهويّة، بل حصلت الشخصيّات على الهويّة كأنّها منّة تتصدّق عليهم الدّولة بها مع أنّها من حقهم “فقد أُعطي مرسوم جمهوري الجنسيّة اللبنانية لمن يستحقّونها”58، وفي هذا تعوّد على الرضوخ، وتآلف معه،كما يبدو أنّ بذور التمرّد انقضت مع باسم وراحت هباء، فلم يستطع مع كلّ نضالاته أن ينتزع حقّ الانتماء، وكأنّ الرّواية تنطق بلا مقول مفاده: إنّ لبنان بلد طائفيّ يُحكم بالتسويات، لا بالجهاد، وكلّ ما يدركه الفرد هو نتيجة سياسة تُراعَى فيها التوازنات الطائفيّة، لكن هذا الواقع المتجلّي في السرد يستفزّ المتلقّي، ويحثّه على التغيير والسعي في سبيل ذلك، وإلا تبقى الأمور على حالها أوتسوء.

من جهة أخرى نرى نجوى آثرت الانزواء والتّقوقع، فبدت شخصًا مسلوب الإرادة، وتحوّلت إلى شخصيّة مفعولة لا فاعلة؛ ذلك أنّ عدم القدرة على إيجاد الخلاص جعلها تغرق في المأساة، ويطغى على شخصيّتها الحزن، وتنسحب من الحياة الاجتماعيّة، و”تعيش في أفكارها الخاصّة، تهرب باستمرار من الواقع مفترضة أنّه ليس الواقع الفعليّ، وأنّ ما تحلم به سيأتي يومًا لا محالة”59، وهذا هروب من المشكلة بإنكار وجودها، وانسحاب من الوجود الفاعل؛ إذ “قد يؤدّي فقدان الهويّة أي الاغتراب إلى العزلة والانطواء”60، فتتخلّى نجوى عن السّعي وترمي المسؤوليّات على غيرها: بداية على أمّها سعاد إذ “ظلّت نجوى عاجزة عن تدبّر أمورها دون وجود أمّها سعاد إلى جانبها”61 ثم على ابنتها، فتقول ليلى: “تُسَرّ أمي حين تترك مسؤوليّاتها لأيّ أحد”62، وكأنّ الرّواية تنطق بلامقول مفاده أنّ صاحب هويّة قيد الدّرس عاجز، لا يمكنه تدبّر أموره بنفسه، لذا هو بحاجة إلى آخر/ كفيل يرعاه، ويحدّد مصيره لأنّه غير مستقل.

وتلجأ نجوى إلى الإسقاط أواليّة دفاعيّة تساعدها على التّخلص من الشّعور بالذّنب، فتلوم زوجها وأبناءها وتراهم السبب في معاناتها، وهي بذلك تفتّش عن مخطئ يتحمّل أعباء الفشل الذي تعيشه، وذلك أنّ “فشل تحقيق الذّات، فشل الوصول إلى قيمة ذاتيّة تعطي للوجود معناه، يولّد أشدّ مشاعر الذّنب إيلامًا للنّفس وأقلّها قابليّة للكبت، هذه المشاعر تفجّر بدورها عدوانيّة شديدة تزداد وطأتها تدريجيًّا بمقدار تراكمها الداخلي. وعندما تصل العدوانيّة إلى هذا الحدّ لا بدّ لها من تصريف يتجاوز الارتداد إلى الذّات وتحطيمها يصل إلى حدّ الإسقاط على الآخرين”63. لم تستطع نجوى إدانة نفسها فأدانت أبناءها وزوجها، كما لم تستطع تحمّل المسؤوليّة فاتّهمت الآخرين بالتّقصير، والأمر نفسه نجده لدى ياسمين عندما تتحوّل عدوانيّتها تجاه أخوتها، وتلقي اللوم على والدها فيما وصلت إليه، وتأخذ هذه المشاعر طابع الحقد المتشفّي وبذلك تُشَلّ قدرتها على الحكم الموضوعي من جرّاء التّوتر الذي تعيشه، فيغدو الإسقاط السبيل الوحيد أمامها، وتدين والدها فيما وصلت إليه العائلة، وتعلن: “العهر الأكبر حين غادرنا أب لم يبال بترك عائلة وحيدة وسط الفقر، وأنا كذلك، فلا تحاولوا محاكمتي لأنني الأضعف”64، ولعلّها بهذا تمارس ما يُطلق عليه التّماهي بالمعتدي، فهي تتقمّص ما قام به والدها؛ أدار ظهره للأسرة، وهي فعلت مثله تمامًا،ويسيطر الانفعال على الحوار، ويصبح سيّد الموقف، ويتحوّل إلى”حوار طرشان هو بكلّ بساطة انهيار علاقة التفاعل وانكفاء على الذّاتيّة ذات الانفعالات المفرطة التي تحوّل الآخر إلى مجرّد عقبة تعوق الوصول إلى الهدف الشّخصيّ”65، فينهار المنطق لدى نجوى وياسمين في تعاملهما مع الآخر نتيجة عدم القدرة على إقناعه، لأنّ ما يقومان به غير مبني على وعي، إنّما محصّلة الانفعال والضعف.

وبهذا تتحوّل تداعيات هويّة قيد الدّرس إلى عائق أمام الانفتاح لمواجهة الأزمات، وتحقيق الذّات وبلوغ الأهداف، وتترافق هذه الهويّة وقلق خوض التجربة، فيفضل حسّان التقرّب من المشابه لوضعه الذي يعيش حالته، لذلك يندفع تجاه صولا لأنّها كما يقول: “تشبهني في بحثها عن الانتماء وإحساسها الدائم بالاغتراب”66، ويرى أنّ هذا سببها في التقرّب منه أيضًا: “صولا أحبّتك لأنّ حكايتها تشبه حكايتك”67، وهذا ما يؤدي إلى الاختيار الخاطئ؛ لأنه غير مبني على اقتناع ووعي بنقاط التشابه والتوافق الفكري والانسجام الروحي، إنّما هو نتيجة نقص تحياه الشخصيّة، فتبحث عمّن يشاركها هذا النقص ولا يعيّرها به، فكلاهما يبحث عن الانتماء، وكأنّ حرمانهما من الانتماء جعل كل واحد منهما يظنّ أنّه ينتمي إلى الآخر، وفي هذا هروب من مواجهة الواقع أو عدم قدرة على مواجهته، ولعل القصّ وعى هذا الأمر، لذلك أفشل علاقة حسان بصولا، لأنّ العلاقة الزوجيّة السويّة يجب أن تكون مبنيّة على تكامل الزوجين فكريًّا وعاطفيًّا لا نتيجة الحاجة للشعور بالانتماء فقط، أو الخوف من الفشل المتكرّر، ورفض الآخر للذات وتحقيره لها،ما يجعل الذّات تشعر بالخذلان والقلق نتيجة غياب الأمان الذي هو بدوره نتيجة غياب السند، ما يؤدّي إلى الضعف، والهشاشة التي تؤدّي إلى انعدام الثقة بالنفس، فتتمنّى ليلىأن تكون مثل زميلاتها في المدرسة”محميّة بعائلة مستقرّة، أن يكون لديها من يدافع عنها ويمدّها بالثقة التي تحتاجها لمواجهة العالم”68، إزاء هذه المصاعب يصير”المضيّ في الطرق المعاكسة لأهدافي.. أمرًا بديهيًّا، لذا لم يبق لديّ شيء من الأحلام”69،عندها يصبح فقدان الهويّة مقوِّضًا للأهداف والطموحات، فلا تستطيع الذّات المشاركة في أبسط أمور الحياة، والأصعب من هذا أنّهالا تملك القدرة على الاختيار، لأنّ خياراتها رهن هويّتها المنقوصة، وهذا ما حصل مع ليلى عندما تزوّجت حميدًا بغية الفرار”من سلالة قيد الدّرس”70، هذه السّلالة التي تجعل صاحبها لقمة سائغة يطمع في الاستحواذ عليها القاصي والدّاني، كأنّها عبد مملوك، فهذه الهويّة جعلت جاسر الشمّري يفكّر”في ضمّها إلى قائمة زوجاته”71. وبناء عليه يكون الفرد الذي “مُحيَت هويّته.. فاقدًا لشرعيّة وجوده”72، بحاجة إلى الآخر لاستمداد الكينونة لأنّ الهويّة هي “الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمالة النّواة على الشّجرة في الغيبيّ المطلق”73، فكما أنّ النواة أساس الشّجرة، ولا وجود للأخيرة من دون الأولى، كذلك حال الهويّة بالنّسبة إلى الإنسان، فليس له وجود حقيقيّ من دون هويّة تُعرف عنه،وكأنّ من لا يملك هويّة ليس لديه خصوصيّة “بوصفه وجودًا منفردًا متميّزًا عن غيره”74، بل يصير مشاعًا، وهذا ما يؤدّي بفاقدها إلى التّشتّت، وهكذا يعيش عوّاد حياته “متنقّلًا بين بيوت زوجاته”75، ويتحوّل التشرّد إلى “جزء متجذّر في شخصيّته”76، ولعلّ مرجع عدم الاستقرار يكمن في عدم تمتّعه بهويّة تخوّله الشعور بـ “الوحدة، والتكامل، والانتماء، والقيمة، والاستقلال، والشعور بالثقة المبني على أساس من إرادة الوجود”77، فقد حُرِم باسم من جنسيّة تمكّنه من الارتباط بمكان محدّد ينتمي إليه، ويوفر له الاستقرار الداخليّ النّفسيّ، والثّبات الاجتماعيّ، والوطنيّ والإنسانيّ، فهو وُلد في لبنان، وعاش فيه، لكن لبنان لم ينصفه، لم يمنحه جنسيّة لبنانيّة تُعرف عنه بل أعطاه وأمثاله هويّة قيد درس، فكان شخصيّة هامشية، لم تكن لديه أهداف مهمّة يسعى إلى تحقيقها، بلآثر تعدد الزوجات، وكثرة الإنجاب وهذا ما أدّى إلى فقدان النّسب وتشتّته، لذا “لم يكن يعرف كلّ أبنائه، أما الأولاد فكانوا يُعرفون بانتماءات أمّهاتهم، فيقال عنهم: أولاد الشّيعيّة، أولاد المسيحيّة، أولاد البيروتيّة، أولاد العراقيّة”78، وكأنّه بهذا يغرس بذوره في بقاع الأرض العربيّة انتقامًا من الأرض التي لم تعترف بوجوده، لكنّه أعطاها أبناء، من الممكن شطبهم من دائرة النفوس لكن لا يمكن شطبهم من دائرة الحياة. ويبلغ التّشتّت مداه لدى حسن الذي يشعر بالتّيه ويقول: “عشت طوال عمري تائهًا، لا أعرف لي هويّة ولا انتماء”79، وتفقد الشّخصيّة البوصلة إلى الطريق المستقيم، وتعجز عن تحديد الأولويّات، وحاجاتها، ورغباتها، ويعيش حسّان الانشطار ويعجز عن إيجاد الإجابة لتساؤلاته: “ماذا أفعل هنا؟ لِمَ أنا موجود في فرنسا؟ وفي اللحظة ذاتها يواجهني سؤال آخر: ولمَ ستعود إلى لبنان؟”80، ويؤدّي هذا الأمر بصاحبه إلى اليأس والإحباط، وعدم القدرة على السّعي والفعل، فيقف حسّان “على حافة التشظّي، متأرجحًا بين مصير ومصير”81، إنّه الضياع التّام والتّشتّت الكلّي، وما يرافقهما من معاناة لعدم معرفة الذّات، فيقول: “وقفت وجهًا لوجه أمام قاع كينونتي لأعرف من أنا”82،وتصير الهويّة هي الذات والأنا، ووعي هذه الذات، لأنّ الهويّة “أن يكون الإنسان هو نفسه، متطابقًا مع ذاته، في حين أنّ الاغتراب هو أن يكون غير نفسه”83، وهكذا تتفاقم أسئلة الكينونة أمام الهويّة المهشّمة التي تعاني صراعات داخليّة وخارجيّة، فتواجه الذّات أخطر أسئلة نتيجة الضياع وعدم الإحساس بذاتيّتها وفقدان الكينونة، ويولّد عدم القدرة على معرفة الذّات الاغتراب النفسي الذي يتمظهر في النّفور من الارتباط بمكان ما، وهذا ما يعكس حالة القلق والاضطراب والتوتر التي تعيشها الشّخصيّة، فيؤثِر حسان البقاء في الطائرة”عالقًا بين الأرض والسماء”84 على الرجوع إلى مكان يمقته، وهو بذلك يبحث عن الأمان الذي فقده في لبنان، فيعبّر: “الرحيل الدائم وقت متقطّع غير متصل بالزمن، تكون خلاله في حالة أمان قصوى غير مرهونة للهويّات والتعريفات التي يبحث عنها الآخرون”85، لكنّ هذا الأمان ما هو إلّا هروب من مواجهة الواقع البغيض والمرفوض منه، ما يجعله يعيش في حالة توتّر تجعله يسعى إلى الاختفاء والذّوبان في مدينة جديدة، فيقول: “أحببت العدد الهائل من الغرباء الذين ألتقي بهم”86، وفي النهاية يصل إلى حدّ التلاشي والغياب، لأنّه عاجز عن إثبات الذّات وتحديد الانتماء، فيناجي ذاته المقهورة: “عشت دائمًا على الحافة، تواجه عجزك في الحفاظ على توازنك كي لا تسقط هنا أو هناك، إلى من تنتمي أنت! وهذا البلد، الذي ولدت وعشت به، وحملت هويّته بعد سنوات طويلة، لا تجد ذاتك على أرضه”87، والسبب في عدم الانتماء هو عدم الشعور بوجود الأب، بسبب غيابه الدائم وبسبب هويّة قيد الدرس، ما أفقد حسّان الاعتزاز بالانتساب إلى أبيه أوّلًا، وإلى الأرض/ الوطن ثانيًا، لأنّ العلاقة بينهما لم تكن سويّة، وعلى هذا يكون الانتماء بمعنى “الانتساب، فانتماء الولد إلى أبيه انتسابه إليه واعتزازه” 88،والانتساب في الرّواية كان بيولوجيًّا فقط، فلم تحظ الشخصيّة بالرعاية، ماجعلها تعيش التفكك وعدم الارتباط بالأب أو بالوطن، أوالقيم والتقاليد.

وعدم إيجاد الذّات ميزة عامّة في الرّواية، وحالة تتكرّر مع الشخصيّات، إذ تشعر ليلى بالاستلاب الذّاتي والفكري والكياني، وتطرح أسئلة تبيّن حالة التّشتّت التي رافقتها في مراحل حياتها: “هل أنا ليلى البنت الفقيرة -شبه اليتيمة- التي عاشت في دير السّرو.. هل أنا الأم المعذّبة في علاقتها مع ابنها.. من أنا حقًّا؟ زوجة صاحب مطعم أندلسيا الأشهر في بيروت، أنا كلّ هذا.. ولست شيئًا من هذا، ما نكون عليه ليس هو ذاتنا الأعمق، وأنا لم أجد ذاتي الأعمق بعد”89، وإذ تقرّ الشّخصيّة بعدم معرفة ذاتها يولد لديها ضياع سببه الرئيس حالة الاغتراب التي تعيشها في: “وطن لا أنت غريب فيه ولا أنت من أهله”90.

هذا الوطن الذي يثقل كاهل أبنائه، ويعيشون فيه أكثر أنواع “التمييز الاجتماعي”91 قساوة، يدفع بهم قسرًا لا طوعًا إلى الهجرة، ذلك أنّ “لكلّ امرئ الحقّ في الرحيل -وعلى وطنه أن يقنعه بالبقاء-.. فعلى وطنك أن يفي إزاءك بعض التّعهّدات، أن تُعتبر فيه مواطنًا عن حق، وألّا تخضع فيه لقمع، أو لتمييز، أو لأشكال من الحرمان بغير وجه حق، من واجب وطنك وقياداته أن يكفلوا لك ذلك؛ وإلّا فأنت لا تدين لهم بشيء”92، لذا يهاجر أبناء عوّاد من زوجته خديجة إلى كندا، وتستمر الهجرة بعد حصول أصحاب بطاقة قيد الدّرس على هويّة لبنانيّة، إذ لم يؤثّر إعطاء البدو الهويّة اللبنانيّة في مجرى حياتهم “سوى أن جزءًا منهم صار يفكّر بالهجرة إلى الدّول التي فتحت أبوابها لاستقبالهم”93؛ لأنّ الشعور بالانتماء إلى الوطن لم تعزّزه التجربة، وهذا ما شكّل حافزًا لهم لكي يغادروا، وبذلك يفقد الوطن أبناءه وتعمر بهم بلاد الاغتراب، ويحقّق المهاجرون في الخارج أنفسهم، ويحصلون بسهولة على ما ناضلوا لأجله في لبنان، فيقول حسّان: “وفي فرنسا أيّضًا، سأحصل بعد ثلاثة أعوام على الجنّسيّة الفرنسيّة لأصير مواطنًا أوروبيًّا”94، لكن باءت مساعيهم بالفشل في وطنهم الذي أعطوه من ذواتهم، وضنّ عليهم ببطاقة تثبت انتماءهم إليه، وأقصد بهذا الكلام باسمًا الذي تحوّلت معه قصّة قيد الدّرس إلى قضيّة إنسانيّة. ونلحظ في هذه القضيّة تخلّف لبنان مقابل تقدّم العالم الغربيّ، إذ ضنّ لبنان بالجنّسيّة على ساكنيه ومريديه وأولئك الذين قاتلوا في سبيله، في حين كانت أوروبا، ممثلة بفرنسا ولندن، فاتحة ذراعيها وأحضانها للوافدين، تقدّم لهم الجنّسية اعترافًا بانتمائهم إليها، ولعلّ هذا ما أسهم في تقدّم القارة العجوز التي استقطبت المهاجرين، ونمّت عددها السكاني، وما يتبعه من تغيّر في بنية السكّان مستفيدة من اليد العاملة الشابّة المبدعة التي تمتاز بنمطيّة تفكير جديدة خارج الإطار الموجود في الدول المستقطبة، في حين خسر العالم العربي خيرة شبابه من خلال هجرة الأدمغة95، ولعلّ الهجرة السوريّة بعد العام 2011، واستقطاب ألمانيا للمهاجرين واللاجئين الهاربين من بلدهم الأم مثال حي عن فوائد الهجرة لبلاد الاستقطاب، وأثرها السّلبي على البلد الطارد. ومع ذلك ما زالت آفة الهجرة مستمرّة حتّى اليوم في لبنان، إذ بسبب تلكّؤ الوطن/ الحكومة عن تقديم الخدمات والحاجات الأساسيّة من تعليم وطبابة وحياة لائقة يعمد كثير من اللبنانيين وبخاصّة المتعلّمون منهم إلى الهجرة، ونتائجها “وخيمة عبر خسارة يصعب تعويضها للرأسمال البشري اللبناني، وهو المدماك الأساس في إعادة بناء الدّولة والمجتمع والاقتصاد.. لطالما شكّلت نجاحات اللبنانيّين في دول الاغتراب مادة في بناء سرديّة اللبنانيّ الشاطر لكنها تستر الجانب المظلم من مجاعات وحروب ودمارفي بلدهم الأم”96، أضف إلى ما سبق القانون اللبناني الذي لا يسمح لأصحاب هويّة قيد الدّرس أو مكتومي القيد بالحصول على جنسية لبنانيّة، والذي يحرم المرأة المتزوّجة من أجنبي إعطاء الجنّسيّة لأولادها، ومردّ هذا كلّه إلىضرورة عدم إحداث خلل في التركيبة اللبنانيّة الطائفيّة. وعلى هذا ينطق النّصّ برؤية استكشافيّة مفادها وجوب إلغاء هذه القوانين الجائرة وضرورة تحديثها حتّى ينعم لبنان بخبرات ساكنيه،لكن وإن لم يتبنّ السرد ثورة على الواقع المتجلّي في النص الروائي، يجب أن يسعى الإنسان إلى التغيير ولا يرضى بالظلم فيجب ألا يقنع بما يعطيه وطنه، عليه أن يعمد إلى الثورة على هذه الأنظمة الفاسدة التي تحرم المواطن حقه وذلك تماشيًا مع قول: كما تكونوا يولّى عليكم، ولو رضخت الحضارة الإنسانية في مسيرتها التاريخية للثوابت والقوالب الجاهزة ما تطوّر العالم وما تقدّم، ولو هاجر كل إنسان لم ينصفه وطنه لغابت أوطان كثيرة. وبناء عليه، علينا أن نعي أنّ الوطن فكرة رمزية يعطيها الإنسان أبعادها ومعانيها، والإنسان هو الذي يعمّر الأوطان لا العكس.

وفي أثناء العودة إلى باسم وأثر هويّة قيد الدّرس عليه،أنطلق من رأيّ حسّان بفاقد الهويّة، وهو: “في مجتمع ذكوري.. لا يوجد مجد للإنسان المجرد منها.. سيكون منبوذًا من المجتمع، فاقدًا لشرعيّة وجوده”97، وإذ يربط حسان الرجولة بالهويّة، وتصير الهويّة مرادفًا لها وللوجود، يفهم القارئ البرنامج السّرديّ لباسم الذي يسعى من خلاله إلى إيجاد حلول لوضعيّته المأزقيّة التي تعيد له بعضًا من توازن وكبرياء وعنفوان. يحاول باسم الحصول على هويّة لعلّه يسترجع وجوده ورجولته، فيكون تأكيد الانتماء للوطن الفرصة الوحيدة له لتحقيق الوجود وإلّا الاختفاء. وفي سعيه تتجلّى عقد الذّات وانشطارها؛ فعدم تحقيق الانتماء للوطن حرمه الانتماء للعائلة؛ لم يستطع الانخراط في العائلة على الرغم من الزواج والإنجاب، ولم تكن حاجات العائلة من أولويّاته، “فقد كان منشغلًا بهمّه الأكبر”98، ولعل السّبب عدم تحقيق كينونته باعتراف السّلطة والنّاس به إنسانًا منتميًا إلى أرض ووطن،فـ “كان الرفاق أو الأخوة (رفاق باسم) يشكّكون في انتمائه”99، وبهذا يكون رأيّ الآخر هو الذي أسهم في تشكيل سعي الذّات إلى تحقيق الانتماء الوطني، وعدم القدرة على الاستجابة للانتماءات الأخرى، يقول السارد: “هذه الأوقات الحميميّة والقليلة في حياة باسم تبدو بالنّسبة له تافهة أمام نداء المعركة الذي كان يدفعه للمغادرة”100، وذلك لشعوره بعدم اعتراف الآخربه، الأمر الذي يؤدّي دورًا تدميريًّا في حياة الذّات؛ لأنّ”نظرتنا هي التي غالبًا ما تسجن الآخرين داخل انتماءاتهم الضيقة، ونظرتنا كذلك هي التي تحرّرهم”101، فالآخر في الرّواية هو الذي أقصى باسمًا وكلّ من ينتمي إلى هويّة قيد الدّرس لمعاملته إيّاه بدونية،بوصفه فاقد شرعيّة وانتماء. وفي هذا المقام، يمكننا أن نربط سعي باسم الحثيث لإثبات هويّته والانتماء الوطني بالنسق الثقافي المضمر في اللّاوعي الذكوري للرجل العربي، وهو إثبات الرجولة فيبحث باسم عن تأكيد الذّات من خلال إثبات النسب، وهنا تمثّل الهويّة اعترافًا بنسبه ووجوده، لذلك كان فقدان الهويّة بالنّسبة إلى باسم مرضًا سبّب له التّشتّت والاستلاب الداخلي، وعدم القدرة على تأدية دوره بوصفه أبًا، والأمر نفسه يمكن أن يُطبَّق على عوّاد فكان غير قادر على الاستقرار ولم يعرف أبناءه، لكن يبدو أنّ عدم مواجهة الشخصيّات هذا الظلم أو عدم إيجاد السبيل النافع في مواجهة السلطات اللبنانية يكشف عن لا مقول في النص يبيّن تخاذل هؤلاء الشبان الذين يحملون هوية قيد الدّرس في الحصول على حقوقهم، فالحقّ يؤخذ ولا يعطى منّة. ويمكننا أن نربط ما يحصل اليوم في المجتمع اللبناني بسكوت اللبناني ورضوخه وعدم مواجهة الفساد والظلم، وهذا مؤشر خطير، يمكننا أن نربط فيه عنفوان الإنسان ورفضه للظلم بالتطور والإنتاجية؛ ما يعني أنّ فساد المجتمع اللبناني سببه المواطن أولًا؛ لأنه لا يثور ليطلب حقه، ولعلّ اكتفاء السرد بعرض الواقع كما هو؛ أي عدم نضال أصحاب هوية قيد الدرس للحصول على هويتهم، بل حصلوا عليها محض صدفة نتيجة توافق سياسي أو ربما صفقة مادية، يدل على غياب تفكير الشعب الذي تحكي الرواية قصّته بالثورة ضد الظلم.

ومن الممكن أن يكون لجوء باسم إلى القتال هروبًا من واقع عدم قدرته على إثبات الذّات،وعدم الشعور بالوجود خارج مشروع الكفاح والتّحرير، فهو،كما تراه نجوى:”رجل مقاتل يفضل البراري والجبال بحجة النضال على أن يعود إلى بيته”102، وكأنّ حياته كلّها وكلّ انتماء فيها كان معلقًا على تحرير الأرض، ذلك أنّ باسم يرى أنّ وضعه المأزوم نتيجة الاحتلال الصهيوني واتفاقيّات الغرب، لذلك يعمد إلى النّضال بوصفه مخلّصًا من مركّب النقص الذي أورثه إيّاه الاحتلال ممثّلًا بهويّة قيد الدّرس، وكأنّ الجهاد هو السبيل الوحيد ليتخلّص من قهره، ومن عقدة النّقص والجبن والخوف التي غرسها في عروقه سلْب الهويّة، فيحقق ذاته من خلال القتال، وينفي عن نفسه صفات الكسل والخبل والاتكاليّة؛ لذلك يتنكّر لكلّ الانتماءات، ويستميت في الدفاع عن الأرض لتحريرها، وكأنه يعيش انفصام شخصيّة إذ يقدّم الولاء الكلّي لقضيّة تحرير الأرض، وفي المقابل يقابل اهتمامات الأسرة وحاجاتها باللامبالاة، وهنا نشير إلى أنّه وعلى الرغم من القضية العادلة التي يحارب لأجلها باسم إلا أنّ بوصلة الجهاد يجب أن تكون تجاه السلطة الأساس التي حرمته الهوية، فتحقيق العدالة يجب أن ينتقلمن الداخل إلى الخارج، ولعلّ محاولة تحرير فلسطين تقدّم رؤية مفادها وجوب عدم الصلح مع الكيان الصهيوني، وعدّه المسؤول عن مشكلته، ومشكلة أقرانه، لكن التغاضي عن النضال الداخلي ضدّ القوانين اللبنانيّة للحصول على الجنسيّة اللبنانية يبيّن أنّ اللبناني دائمًا مستَغل يضيع في القضايا الكبرى وينسى نفسه، لذلك يبقى الملف اللبناني دائمًا مرتبطًا بالملفات الإقليمية.

ونلمح في سعي باسم إلى الحصول على التحرير اتّكاله على الزعيم، وتعلّقه به بوصفه وسيلة للتحرير من دون الإيمان بباقي الأشخاص، فما إن قُتل الزعيم حتّى تلاشت قوة باسم،”وأحسّ بالهزيمة الحقيقيّة”103، وسيطرت عليه الخيبة. ويمثّل باسم صورة تبيّن الخواء الذي يعيشه الإنسان العربي، فلا يرتبط بنظام أو استراتيجيا معيّنة لها أهداف واضحة ودقيقة، إنّما يقدّس الأشخاص. وهذا ليس مستهجنًا في بيئات يبزغ نجم بعض الزعماء العرب أكثر من بزوغ نجم أوطانهم. وما تعلّق باسم بالزعيم في الجبهة الفدائيّة إلّا عمليّة خلق نوع من التوازن مع صورة الأب المفقود، والوطن الضائع، والهويّة المسلوبة من خلال تكوين صورة للأب الحامي المنقذ، وهذه الصورة الإيجابيّة “تحدّ من قلق الخصاء، وحالة التهديد الدائم التي تصاحبه. إنّها تجعل الوجود متوازنًا بعض الشيء.. تعني النّهوض بأعباء الرجولة وتحمّل مسؤولياتها، وتعني بالتالي توكيد الذّات المستقلّة والمماثلة للآخر”104. ومن هنا يلحظ القارئ تعلّق باسم بالتّاريخ وحنينه إلى الوحدة العربية فيستمتع “في إعادة سرد ماقرأ في كتب التاريخ عن بلاد الشام في أيّام الإمبراطورية العثمانيّة.. لم تكن هناك حدود واقعيّة بين البلدان”105 وذلك لأنّ هذه الوحدة كفيلة أن تعيد له حقّه المهدور، وهويته التي سلبه إيّاها التقسيم والاحتلال.

وهذا النكوص إلى الماضي والسعي إلى إحياء الأمجاد المستحيل رجوعها هو نتيجة فشل باسم في الحصول على حاضر أثيل؛لذلك نراه عندما ينتهي الجهاد يُمسّ بكبريائه، وتُهدّد كرامته، فيفقد كيانه، وتنهار قدرته على الاحتمال، ويهرب من المواجهة ويختفي، لعدم ثقته بإمكانيّة الخلاص “إذ إنّ المعاناة الحاضرة التي لا تجد لها إمكانية خلاص في مستقبل منظور تحوّل الحياة إلى جحيم”106، فالهزيمة العسكريّة وإن مسّت ظاهريًّا الكبرياء القومي والاعتداء على الأحلام الوطنيّة لدى باسم، تأخذ على المستوى النفسي معنى فقدان الكرامة واحترام الذّات؛لذا يخبر نجوى أنّه “يرى في سقوط المدينة خيانة كبرى تعرّض لها شخصيًّا”107 لأنّ الهزيمة”تعني في النّهاية جرحًا نرجسيًّا يأخذ طابع الخصاء على المستوى اللاواعي”108، وهذا ما أدّى إلى انشطار في شخصيّته، فلا ينسجم مع الواقع،لذا ما إن توقفت أعمال التحرير حتّى هجر زوجته وأولاده، وراح يدرّب جنودًا على القتال في بلد آخر، والمفارقة أنّ البلد الذي راح يناضل فيه ويدرّب أبناءه على القتال هو البلد المتّهم بقتل الزّعيم الذي يدين له باسم بالولاء الكبير، ما يعني أنّ باسم باع القضيّة التي بقي يناضل في سبيلها طوال عمره، أو لعلّه اكتشف عدم جدوى ما قام به، أو لعلّ هذا القرار كان للهروب من مكان لم يعترف بانتمائه حيث “لم تنفع الإصابات في ساقه ويده وعينه اليسرى في أن تحسم قضيّة هويّته، وتختم شرعيّة انتمائه لأيّ حزب أو وطن”109، أو لأنه جُرّد من سلاحه ومن “زيّه العسكري الذي كان يتبختر به مثل طاووس مغرور”110، إذ في ظلّ الشعور بالنّقص اتّخذ باسم من السلاح قوّة، فشكّل له درعًا وحماية في مكانِ سلبه ذاته وانتماءه وقيمته، لقد أعطى السلاح قيمة لباسم ولم يجد لنفسه وجودًا في غيابه فآثر بيع”خبراته العسكريّة التي آل مصيرها إلى التجمّد تحت سقف صفيحي في هذا البيت البائس”111، لكن أن يعمد النص الروائي إلى إنهاء حياة باسم بمشهديّة بيع خبراته العسكريّة إلى من شارك في قتل الزعيم يشير إلى لا مقول في النص هو اغتيال القضيّة الفلسطينيّة ونسيانها.

وهديًا على ما سبق، قد يلاحظ القارئ أنّ باسم عمد، في إطار بلورة حلّ لوضعيّته المأزقيّة، إلى الانخراط في جبهات القتال علّه بذلك يعيد الاعتبار لإنسانيّته المهدورة، إذ يعطيه الانخراط في صفوف الفدائيين هدفًا يحيا لأجله، وشعورًا بتقدير الذّات، ويبعد عنه شبح النقص الذي يعانيه، ويجعله يعيش في الآمال التي، إن تحقّقت، تحوّل حياته من النقيض إلى النقيض، لكنّ الخلاص لا يتحقق، ويتبيّن أنّ باسم كان يتعلّق بسراب، فينكفئ على الذّات، ويغرق في أتون اليأس والإحباط الذي يقوده في النّهاية إلى الهرب والاختفاء، ويبقى خائبًا مقهورًا أكثر ضياعًا وتشتّتًا. وننهي معه قائلين: إنّ هويّة قيد الدّرس وعدم الاعتراف بانتماء باسم سببا له الاستلاب الوجودي فآثر الغياب على الحضور المهمّش، وكأنّ الرواية تشير إلى أنّعدم مواجهة المشكلة الحقيقية يؤدي بالإنسان إلى التلاشي والاختفاء؛ فإمّا أن تكون أولاتكون، وكي تكون يجب عليك أن تعرف أين حقك وتحصل عليه، لذلك لم تتحرّر فلسطين ولم يحصل باسم على هويته، فكيف لوطن يطرد مواطنيه أن ينجح في استرجاع شقيقه من براثن الاحتلال؟ ليس بمقدور لبنان الذي لم يعترف بأبنائه أن يناضل لاسترجاع فلسطين، لابدّ من تمتين البيت الداخلي أولًا ثم الانطلاق نحو الخارج.

هذا الغياب، الذي عادل في مكان ما غياب الهويّة كان العامل الأساس والمباشر في تهشيم ذوات أبنائه، وفي القضاء على وجودهم الإنساني، وبالتحديد حسن وياسمين، إذ أدّى الاستلاب الوجودي لدى باسم إلى استلاب فكريّ وعقائديّ لدى حسن وياسمين، وهذا ما سنتناوله فيما يلي:

الاستلاب الفكري والعقائدي:

يحتاج المرء إلى مثال يتماهى به، وإلى مظلّة قيم يتفيّأ في ظلّها، وتحميه من الرياح المشبعة بالسّموم العقائديّة والفكريّة، وإلّا سيكون عرضة للاستغلال والاستباحة، ويصير أداة يستخدمها الآخر لتحقيق مآرب وغايات تكون في معظم الأحيان تدميريّة للذات والمجتمع في ظلّ شعارات جوفاء يستخدمها الآخر للإيقاع بالضّحيّة. والضّحيّة، هنا في هذا الرّواية، كان حسن الابن الأصغر لنجوى الذي عاش التهميش العائلي، إذ ولد في دير السرو حيث كانت العائلة تعيش الفقر والجوع والتهجير والنظرة الدونيّة لها من الآخرين، فلم يحصل على تنشئة سليمة، ولم يشعر بالاحتضان الأسري، ولم يتمكّن علميًّا ومعرفيًّا ليتقلّد زمام السيطرة على مصيره، هو نموذج للذات المقهورة التي حرمها الوطن الانتماء إليه، وحرمها الهويّة، وبالتالي حرمها قيمتها الإنسانيّة لأنّ الهويّة، وحسب ما جاء في السّرد “هي اختزال أبعادك الإنسانيّة”112، وحرمها احتواء الأب الذي عاش مشتّتًا يحاول إثبات انتمائه.

وفي ظلّ الهويّة الغائبة، وصورة الأب المفقود عاش حسن “إحساس اليتم والوحدة”113، وعدم الانتماء وكل ما ينتج من هذا الفقد؛ لأنّ “الانتماء في حقيقته شعور فردي بالثقة، يملأ النفس شعورًا بأنّ الفرد ليس وحيدًا، وليس ضعيفًا، ولا يسير منفردًا في عالم يجهله، بل هو يملك السند، وإنّه (أي الفرد) جزء من جماعته يمكن أن تدافع عنه ضد المجهول، سواء كان هذا المجهول قوّة معيّنة، أو ظروفًا قاهرة، أو أي شيء آخر”114. إزاء كل هذا النقص كان حسن عرضة للانتهاك، والاستلاب، والضياع؛ لقد مثّلت ظروفه عامل جذب استقطب القوى الإجراميّة لغسل دماغه، والسيطرة عليه،لتجنيده في خدمة مصالحها التدميريّة، وكان حسن طُعمًا سهلًا للحركات الأصوليّة، لأنّ “جماعات العنف والتّشدّد والتّطرف الدّيني والمذاهب بكلّ تيّاراتها، تتغذّى من السوسيولوجيا قبل الإيديولوجيا، فالمغذّيات الحقيقيّة للعنف وللتّطرف موجودة في الواقع الذي يعيش فيه الإنسان، وهو واقع يؤول فيه القهر والاستبداد والتهميش السياسي والاجتماعي كمدخلات سياسيّة واجتماعيّة محوريّة، إلى التشدّد والتطرّف والعنف”115، وهذا ما بيّنه السّردالروائي، فيعود انضواء حسن ضمن المجموعة الإرهابية إلى القهر الذي سببته الهويّة المسلوبة، والأب الغائب، والأسرة المتفكّكة، وعلينا ألّا ننسى الإحباط الذي كان يعيشه بسبب وحدته، ووفاة جدّته، وابتعاد ياسمين، وانزواء الأم وانعزالها، والإحباط في ظروف حسن أدّى به إلى التيه والضياع واللجوء إلى أوّل حضن وجده أمامه، فيقول: “شملني الله بعطفه، ووضع في طريقي الشيخ محمد الأمير”116، ومحمد الأمير كان فدائيًّا، وبعد حلّ جبهات القتال تحوّل إلى داعية، يعلن ما لا يبطن، وقع حسن فريسة شعاراته الرنانة المدغدغة لأصحاب النّفوس الضّعيفة، جنّد حسن تحت مسمّى ظاهري هو الجهاد ورفع راية الإسلام، ليجرّده من إنسانيّته ويحوّله إلى قاتل لا يستطيع الرفض، فينفّذ الأوامر ويفجّر ويقتل، ويستعذب الأمر ولا يبالي بالموت في سبيل قضيّته، ويشعر برضا على الذّات لأنّه كما يقول “تحوّلت عند الأخوة إلى بطل أمام الجميع”117، وفي هذا “انتصار على كلّ العقد الذّاتيّة.. وتحوّل في المصير.. العنف ينسف مشاعر التنكّر للذات وللجماعة وصبّ الحقد عليها.. لذلك تنشأ لُحمة قويّة بين أفراد الشّعب المقهور، وتبرز مشاعر الاعتزاز بالانتماء إليه”118، فيفتخر حسن بانتمائه إلى الجماعة الأصوليّة، وتصير بالنّسبة إليه القيمة المطلقة، ويربط ذلك بغفران من الله الذي “رحمه من مصير عائلتنا الملعونة بغضب الله”119، وهذا ما يعطيه شعورًا بالامتلاء والاعتزاز بالانتماء الجديد، ولعلّ حسن في ذلك”يبحث بشكل لا واع عن العودة إلى العلاقات الدمجيّة بالأم مصدر الحبّ والدفء والحنان الذي حرمته منها المشاكل إذ “منذ إدراكه أنّه يعيش مع أب غائب، كانت في عينيه نظرات الأطفال اليتامى.. الجائعة بشكل مطلق للحنان والاحتواء، ظلّ متعلّقًا جدًّا بأمهحتّى بداية معرفته بمحمد الأمير”120،فتأخذ جماعة محمد الأمير مكان الأم المعطاء، وتحلّ مكان الأب الغائب، والوطن المفقود، فتستغلّه أيّما استغلال ويقوم بما تأمره به، فيتحوّل إلى مجرم، وما هذا الإجرام إلّا نتيجة لمشاعر القهر المكبوتة، وبهذا يتحوّل حسن من الإنسان المقهور المغلوب على أمره، فاقد السيطرة على مصيره ليصير في خانة الهدر “حيث يفقد قيمته، وحصانته، ويهدر دمه، ويستباح ويصير دمية في يدّ الجماعة المتطرفة يمكنها التصرف فيه، ولا يحقّ له الاعتراض بل عليه الولاء المطلق، وهذه الجماعة تهدر طاقات الشّباب ووعيهم وإنسانيتهم”121، وهكذا يتضح أنّ الجماعة أهدرت قيمة حسن الإنسانيّة، واستباحت حرمته وكيانه في عملية الإخضاع والإرغام على القيام بما تريد، إنه الاستلاب العقائدي لذوي النفوس الضعيفة الذين يعجزون عن التمييز بين الخير والشر، وبحاجة إلى خشبة خلاص يتمسّكون بها، والسبب، كما يقول: كان: “تائهًا أبحث عن يقين أتشبّث به”122، فيغرق في نتن هذه الجماعة،ويقتل الأطفال من دون القدرة على الاعتراض،وهناك الندم حيث لا ينفع،وقرار بالتراجع، لكن من دون قدرة على التنفيذ، لأنّ الوعي بتورّطه مع هذه الجماعة جاء متأخّرًا، فيلحظ حسّان في مذكرات حسن:”عبارات مبهمة عن سفر.. وندم.. وعدم قدرة على التراجع.. اعترضت على تلك العمليّة، رفضتها.. لكنّ شيخي أصرّ أن أقوم أنا تحديدًا بتلك المهمة”123، فيسقط حسن في الضياع والتّشتّت والاكتئاب وعذاب الضمير:”هذيان.. انهيارات عصبيّة.. أنا عاجز عن الفعل، أدعو الله في سرّي أن يلهمني الصّواب.. أنتظر رحمته، لكنها لا تأتيني.. عيون الموتى ستظل تلاحقني، عيونهم أخرجتني من دائرتي المطمئنّة التي تمنّيت البقاء بها، لكني خرجت منها إلى الأبد”124،إنها عملية هدر لإنسانيّة الإنسان حيث تُقتل فيه الإنسانية وتحيله رقمًا ليس لمشاعره وأحاسيسه أيّ وزن، هو مجنّد بين صفوف هذه الجماعة ولخدمتها، لا بل أكثر من ذلك تحوّله تلك المنظّمات الإرهابيّة إلى سفّاح، فهي تسيطر على العقول الفارغة وتأمرها بالولاء الأعمى والتبعية فلا يخبر حسن زوجته بما حصل معه لأنه كما يقول:”لم أكن أعرف لمن يكون ولاء امرأتي أكثر لي أم للجهاد”125.

 

قائمة المراجع
تصفح العد
شارك
مجلة سرديات
أكثر من خمسون رواية مسموعة من إصدارات كتارا.