دكتور-مرشد-أحمد
جماليات الإهداء
في رواية «قيس يبكي» لنبيل سليمان
المؤلف

الدكتور مرشد أحمد، أستاذ في كلية الآداب بجامعة حلب وعضو جمعية النقد الأدبي باتحاد الكتاب العرب. شارك في عدد من الندوات المحلية والدولية، وحكَّم عدة جوائز عربية. صدر له ستة عشر كتابًا في نقد الرواية والشعر وثلاثة دواوين شعرية.

The aesthetics of gifting
In the narration of Qais weeping for Nabil Suleiman
Abstract

The structure of this research consists of two forms: The first is epistemic which is inevitable, because knowledge is the basis for achieving proper work, and it is represented by an intensive introductory presentation which included two dimensions: The first is related to the discourse of text thresholds in terms of being part of knowledge system standing by itself, it has its distinguishing characteristics, aesthetic dimensions , functional roles represented in facilitating the transmission of the purposes of the text , deepening its literature and expanding the aesthetics of its reader, which motivates critics to pay attention to it after expanding the concept of the text, and paying attention to the aesthetics of reader. The second is related to the dedication threshold in terms of positioning, entity, and the functional role predicted to the dedication text and demonstrating its relationship to literary work. The second is a procedural, represented by how to work on the dedication text; this was done according to two dimensions:
– Outside the narration by deconstructing the dedication text to know what it is, to know its semantic dimensions, and how it refers to the story.
– Inside the narration by tracing the entity of the dedication text on the narrative path while the narrator begins narrating the story, aiming at finding the communication links between the dedication text and the components which consist the formal structure of the text (character, place and time) and identifying the uterine thread that connects the dedication to the story.
By achieving these two purposes, we know well how the narrative mind operates during the process of creativity. So the events that were well- narrated and accomplished by the characters would explain the motives that make Nabil Suleiman dedicating this narrative text to Basma and the Palestinian boy. This dedication is not free but they both deserve it. This deserving is one of the strings which connect the dedication text with the story, and gives the fictional text the values of the aesthetic experience of reading.
Key words: novelist, narrator, dedication, dedicated person(s), story, reader.

:Key words
جماليات الإهداء
في رواية «قيس يبكي» لنبيل سليمان
ملخص

تتشكل بنية هذا البحث من نسقين: الأول معرفي، لا بُدَّ منه؛ لأن المعرفة أساس تحقق الاشتغال السليم، وتَمثّل بعرض مكثّف تعريفي، تضمّن بُعدين: أوّلهما متعلق بخطاب العتبات النصية من حيث كونها جزءًا من نظام معرفي قائم بذاته، له خصائصه التمييزية وأبعاده الجمالية وأدواره الوظيفية المتمثلة بتسهيل نقل مقاصد النص وتعميق أدبيته وتوسيع جماليات تلقيه، مما حفز النقاد على الاهتمام به بعد توسيع مفهوم النص والاهتمام بجماليات التلقي. وثانيهما متعلق بعتبة الإهداء من حيث التموضع والكينونة والدور الوظيفي المسند إلى النص الإهدائي وتظهير علاقته بالعمل الأدبي.
والثاني إجرائي تَمثّل بكيفية الاشتغال على نص الإهداء، وتمّ وَفق بُعدين:
– خارج الحكائي، من خلال تفكيك نص الإهداء لمعرفة ماهيته وأبعاده الدلالية وكيفية إيحائه إلى الحكاية.
– داخل الحكائي، من خلال تتبع حضور نص الإهداء على المسار السردي أثناء نهوض السارد بعرض الحكاية، بهدف الإمساك بروابط التواصل بين نص الإهداء والمكونات التي تكوّن بنية النص الشكلية (الشخصية والمكان والزمان) وتحديد الخيط الرحمي الذي يربط الإهداء بالحكاية.
وبتحقق هذين المقصدين تمّ إدراك كيفية اشتغال الذهن السردي خلال عملية الخلق الإبداعي، فالأحداث التي سُردت وأنجزتها الشخصيات الروائية باقتدار مقنع للمتلقي تفسر الحوافز التي دعت نبيل سليمان إلى إهداء هذا النص الروائي ل«باسمة» والولد الفلسطيني. وإهداؤه لهما لم يكن مجانيًّا، بل هو نتاج استحقاق عن جدارة، وهذا الاستحقاق أحد الخيوط التي تربط نص الإهداء بالحكاية، ويحقق للنص الروائي قيم التجربة الجمالية للقراءة.

كلمات مفتاحيّة:
المقدمة:

يُعدّ خطاب العتبات النصية جزءًا من نظام معرفي قائم بذاته، له خصائصه التمييزية، وأبعاده الجمالية؛ فهو يكسب النص الروائي قيمة إبداعية مستقاة من أنساق ثقافية غير حكائية، تعمل على تسهيل نقل مقاصده، وتعميق أدبيته، وتوسيع جماليات تلقيه.
والروائي خلال عملية التخييل السردي يبني عالمه الروائي وفق كيفيةٍ ما، سالكًا طريقة محددة في خلق سارد قادر على تنظيم البنيات النصية التي تشكل النص الروائي وفق رؤية إبداعية، وحين يجاور بنيات نصية تمّ سردها ببنيات نصية من أنساق غير حكائية يقتضي هذا الاشتغال من المتلقي ملامسة ماهية كل منهما، والبحث عن العلاقات الخفية التي تربطها مع بعضها بعضًا، كي يصح في البدء دخول عالم النص الروائي، ومعاينة بنياته التي تشكل منها، وهذه المعاينة تجعل المتلقي ينتقل بين بنيات النص وفق مبدأ ثنائي متناقض الأبعاد «التجاور والتباعد» و«التآلف والتباعد».
والاهتمام النّقديّ بالعتبات بدأ بعد «توسّع مفهوم النّصّ، ولم يتوسّع مفهوم النّصّ إلّا بعد أن تمّ الوعي والتّعرّف على مختلف جزئيّاته وتفاصيله، وأدّى هذا إلى تبلور مفهوم التّفاعل النّصّي، وتحقق الإمساك بمجمل العلاقات التي تصل النصوص بعضها البعض، والتي صارت تحتلّ حيّزًا هامًّا في التّفكير النّقديّ المعاصر، فكان التّطوّر في فهم النّصّ والتّفاعل النّصّي مناسبة أعمق لتحقيق النّظر إليه بصفته فضاءً، ومن ثمّ جاء الالتفات إلى عتباته»24.
والعتبات النّصّيّة تشمل شبكة من العناصر النّصّيّة والخارج نصيّة التي تصاحب النّصّ وتحيط به، فتجعله قابلًا للتّداول، إن لم يكن وفق مقصديّة المؤلّف، فعلى الأقلّ ضمن مسار تداولي، لا ينزاح كثيرًا عن دائرتها، ولذلك تمثّل سياجًا أو أفقًا يوجّه القراءة من جموح التّأويل من خلال ما يساهم في رسمه من آفاق انتظار محدّدة25.
وقبل الكشف عن كيفية اشتغال هذه العتبة النصية، أودّ أن أبيّن أنّ بناء هذا المنجز الاشتغالي انطلق –بالإضافة إلى ما سبق ذكره- من معيارية معرفية محددة، تشكلت من:
* التركز على مبدأ القيمة الوظيفية الاعتبارية الذي يلغي العوامل الاعتباطية الخاضعة لقانون المصادفة.
* التعامل مع النص الروائي بصفته بنية مركبة متماسكة، تقتضي وجود علاقات متداخلة بين الداخل الأدبي والخارج الأدبي، يُعبر عنها بالتواصل والانسجام لأداء الدور الوظيفي.
* الاهتمام بجماليات المتلقي، بجعل المتلقي يدرك أنّ للنص الروائي مسارًا معينًا، ويتجه نحو غاية محددة26، مما يؤدي إلى تعميق شهوة القراءة في وجدانه، وتحفيزه على استقبال النص جماليًّا.
وبفضل هذه الإضاءة، يمكن الشروع بوعي في ملامسة عتبة الإهداء؛ لمعرفة مظهر تموضعها وكيفية اشتغالها داخل المنظومة السردية على المستويين: الحكائي والسردي.

 الإهداء:

هو العتبة النصية الثانية بعد العنوان، وهو تقدير من الروائي وعرفان يحمله للآخرين سواء أكانوا أشخاصًا أم مجموعات واقعية أو اعتبارية. والتعبير عن هذا التقدير يأخذ صيغتين عامتين: الأولى تتمثل بخطاب رسمي مطبوع في صفحة من صفحات النص الروائي، فهو إهداء مطبوع، ينجم عنه تملك رمزي للنص الروائي برمته. الثانية تتمثل بخطاب ظرفي مخطوط موقّع بخط الروائي، ويتصل بنسخة واحدة من الرواية المطبوعة، فهو إهداء مكتوب، ينجم عنه تملك مادي لتلك النسخة، ويسمى الإهداء بالتوقيع1.

وكينونة الإهداء تقتضي ثلاثة أطراف: المهدي/الروائي، والمُهدى/ الرواية، والمهدى إليه/خاص وعام:

* المهدى إليه الخاص: هو شخصية غير معروفة لدى الجمهور العام، وعادة ما يهدى له النص الروائي باسم علاقة شخصية ودية، عائلية، أو شيء آخر.

* المهدى إليه العام: هو شخصية تكون معروفة على الأغلب لدى الجمهور، يُهدى له النص الروائي باسم علاقة من طبيعة عامة فكرية، سياسية، فنية، اجتماعية…

وقد يتمثل هذا النوع العام في كيانات جماعية: أحزاب، جمعيات، مؤسسات أو شيء آخر.

وهنا ينبغي الإشارة إلى أن كلّ فعل إهداء يستهدف على الأقل وبالتوازي نوعين من المرسل إليه: المهدى إليه، والمتلقي الذي يكون حاضرًا بشكل ضمني في حدث الإهداء كفعل قرائي2.

والإهداء تقليد عريق عُرف عبر امتداد العصور الأدبية متمظهرًا بأشكال مختلفة وموطدًا مواثيق المودة والاحترام والعرفان والولاء، وكان في القديم يتموضع في النص ذاته أي في ديباجة النص، ولكنه في العصر الحديث بدأ يأخذ صيغته التدوينية الصريحة مسجلًا حضوره الرسمي والشكلي في النص المحيط بصفته نصًّا مستقلًا في شكل مختصر بسيط محمول للمهدى إليه.

وهو يتسم بمزيتين: استقلاليته الموضعية، لأنه يتموضع في الصفحة الأولى التي تعقب صفحة العنوان مباشرة، ويستحوذ على فضائها الورقي بنفسه. وبمرونته القابلة للتغيير عبر تعاقب الزمن بفعل تتالي طبعات النص الروائي.

والوقت القانوني لظهور الإهداء في الرواية هو صدور الطبعة الأولى فيها، وقد يلجأ الروائي إلى إلحاق إهداء آخر في الطبعات اللاحقة، ويمكننا ألّا نجده في الطبعة الأولى، ولكن الروائي عمل على استدراكه في الطبعة الثانية أو في الطبعات اللاحقة، وكل هذا راجع إلى حميمية العلاقة الإهدائية بين الروائي والمهدى إليه3 ليحقق مقصدية حضوره.

* معنوية، تتمثل بالتماس الدعم والسند من المهدى إليه الذي أصبح بشكل ما مسؤولًا عن النص الروائي، وعن استحقاقه الثقافي داخل فضاء التبادل الرمزي، وهي تنحصر في المهدي والمهدى إليه4.

* دلالية، تبحث في دلالة نص الإهداء، وما يحمله من معنى للمهدى إليه، والعلاقات التي سينسجها من خلاله.

* تداولية، وهي مهمة؛ لأنها تنشط الحركة التواصلية بين الروائي وجمهوره الخاص والعام محققة قيمتها الاجتماعية وقصديتها النفعية في تفاعل كل من المهدي والمهدى إليه, وهذه الوظيفة مرتبطة بإهداء النسخة التي تختلف وظيفة الإهداء فيها بحسب الوضع الاعتباري للمهدى إليه، وهو نوعان:

عام للنسخة، يمكن أن يرتبط ببعض المناسبات مثل معرض الكتاب، وما تهيئه دور النشر من تواصل مباشر بين المؤلف والجمهور، ينتهي بتوقيع نسخ للجمهور الراغب في الظفر بإمضاء المؤلف، وعادة يكون هذا التوقيع مصحوبًا بكلمة احتفاءٍ أو بتعليق موجز على الرواية.

خاص للنسخة، يرتبط بخصوصية العلاقة القائمة بين المؤلف والمهدى إليه، ثم بين المهدى إليه والرواية نفسها. لهذا يتجه المؤلف في نص الإهداء، نحو تخصيص هذه العلاقة وتعليلها من خلال تعليق ذاتي على الرواية، وهذا التعليق وما يفصح عنه من معلومات أو تقييم هو ما ينهض بوظيفة تجعل الإهداء الخاص يستحق وضعه الاعتباري.

وفي كل الأحوال إن المهدى إليه سواء أكان خاصًّا أم عامًّا هو قارئ افتراضي على مستوى التخييل الروائي وشخصية واقعية على المستوى الواقعي في آن واحد. والمبدع في إرساله نص الإهداء ينتظر من الشخص الحاصل على النسخة المهداة التكرم بإنجاز قراءة النص الروائي، وبهذا يصبح تملك النص الروائي مقرونًا بقراءته5.

ولأن نص الإهداء قد يكون مرتبطًا بالحكاية؛ لكون الروائي عمل على صياغته وفق بواعث كتابية تعود إلى اختياراته الجمالية الكامنة وراء تشكيل الحكاية، فقد عُدَّ نصًّا مصاحبًا، فقررت استضافته إلى مجال هذه المقاربة النقدية للاشتغال عليه في رواية «قيس يبكي»6.

واشتغالي على الإهداء سيتم وفق مستويين، يحقق كل منهما مقصدًا معرفيًّا محددًا، هما:

* خارج الحكائي: بتفكيك بنية الإهداء النصية؛ لمعرفة ماهيتها، وأبعادها الدلالية وكيفية إيحائها إلى الحكاية.

* داخل الحكائي: بتتبع حضور نص الإهداء على المسار السردي خلال عرض الحكاية لإمساك روابط التواصل بين الإهداء والمكونات الحكائية التي تكوّن بنية النص الروائي الشكلية (الشخصية والمكان والزمان)، وتحديد الخيط الرحمي الذي يربط الإهداء بالحكاية ومدى استحقاق المهدى إليه إهداء النص الروائي، إذا كان على صلة جوهرية بالحكاية وأحد الفواعل التي تنهض بتشكيل أحداثها.

وبتحقيق هذين المقصدين المعرفيين يتم إدراك كيفية اشتغال الذهن السردي لدى الروائي نبيل سليمان، وهو في خضم الخلق الإبداعي.

1- خارج الحكائي

ونص الإهداء في رواية «قيس يبكي» تجلى بهذا المظهر الشكلي:

«إلى «وفيق»، «إيفون»، «باسمة»،

إلى الولد الفلسطيني…»7.

تتكون البنية النصية لهذا الإهداء من نسقين: الأول، تشكل من ثلاثة أسماء علم: «وفيق» و«إيفون» و«باسمة»، وهي مجهولة الماهية وغير معروفة بشكل ما لدى المتلقي. الاسم الأول والثالث عربيان، والاسم الثاني أجنبي. وفيه ورد الاسم منفردًا مجردًا من كل اللواحق الأخرى، ولذلك غدت هذه الأسماء المفردة كأنها معزولة عن كل القرائن التي تسهم في تحديد ملامحها الخاصة. والنسق الثاني تشكّل من اسم وصفي يعبر عن مرحلة عمرية محددة ورد مقرونًا بالنسبة المكانية.

وكل نسق منهما استهل بحرف الجر «إلى» الدالّ على أن الروائي قام بإهداء نصه الروائي إلى هذه الأسماء المدونة في نسقين، مما يشير إلى أنّ هذا النص الروائي «المهدى» وهو «قيس يبكي» صار ملكًا معنويًّا لها. وهنا تتوارد على ذهن المتلقي جملة من التساؤلات، تتعلق بماهية هذه الأسماء ومدى صلتها بالحكاية، واستحقاقها لامتلاك النص معنويًّا بفعل الإهداء.

وبالاستناد إلى التقليد الأدبي العام في عملية إهداء النص الروائي إلى أسماء محددة تقديرًا لدورها المركزي في تشكيل أحداث الحكاية، يمكننا القول: إنّ الإهداء في هذه الرواية (وهو إهداء خاص بامتياز) يوحي إلى أن الحكاية ستنهض بأحداثها شخصيات عربية وأجنبية مسماة بهذه الأسماء الواردة في نص الإهداء، وهي على صلة عضوية بالقضية الفلسطينية في مرحلة زمنية محددة دالّة على فعل المقاومة.

وبناء على هذا الإيحاء الناتج عن تشكل بنية العنوان النصية، يبدأ المتلقي ببرمجة تلقيه معتمدًا على قدرة الإهداء على الامتداد إلى ثنايا النص الروائي، وتداخله مع المكونات الحكائية التي تكوّن بنية النص الشكلية، وتقاطعه مع مقاصد تشكله الإبداعي.

2- داخل الحكائي

المتلقي وهو يشرع في ممارسة فعل القراءة يتلقى مباشرة نصًّا استهلاليًّا تضمن بعض الأسماء التي وردت في نص الإهداء: «لعل باسمة تجد لي عذرًا فيما آتيه هنا. لقد كنت أنوي أن أكتب عنها وحدها، لكن إيفا نازعتني الأمر منذ بات لقاء باسمة أمرًا محتومًا، عليّ أن أعترف بذلك، لعل إيفا أيضًا، إن كانت لا تزال حية وقرأت هذا الكلام، تغفر لي. إنني أخشى أن يربك هذا الاختلاط الذي أنا فيه منذ شهور، ما سوف أكتبه. أخشى بخاصة أن يؤذي باسمة. لقد قضت إيفا على كل حال، أما تلك التي نكأ لقاؤها الجراح الغافية، فلا بد أن تكون حية في مكان ما»8. ينهض هذا النص الاستهلالي على معنى محدد، هو التعبير الصريح عن إخفاق
الكاتب في تحقيق رغبته في الكتابة عن «باسمة» فقط؛ لأن «إيفا» فرضت وجودها عليه، وهو يمارس فعل الكتابة عن «باسمة»، مما يوحي بوجود علاقة جوهرية مميزة بين «باسمة» و«إيفا»، وهذا ما حفز الكاتب على إبداء خوفه من إلحاق الأذى بـ«باسمة»، وأن الأحداث الروائية ستُسند سرديًّا إلى هاتين الشخصيتين.

هذا النص الاستهلالي يستوقف المتلقي بفعل احتوائه ملفوظ «باسمة» الذي يذكّره بالأسماء الواردة في نص الإهداء، فيعود ذهنيًّا وبشكل آلي إلى نص الإهداء، ويقوم بعملية ربط بينهما تؤدي إلى تأكيد الإيحاء الأولي لبنية الإهداء؛ لأن هاتين الشخصيتين ستنهضان بأحداث الرواية، وبهذا تنكشف إرهاصات الصلة القائمة بين الإهداء والحكاية قبل شروع السارد بعرضها على المسار السردي، مما يخلق لدى المتلقي بواعث قرائية تحفزه على ضرورة تتبع هاتين الشخصيتين الروائيتين؛ لأن تعاضد النص الاستهلالي المتعالق مع النص الإهدائي يهدف إلى توجيه المتلقي نحو مسار قرائي محدد رغب فيه الروائي، لكونه يندرج في إطار اختياراته الجمالية في عملية الكتابة الإبداعية. وبهذا التحصيل المعرفي الذي يبدأ بفتح شهية القراءة، يبدأ المتلقي في ممارسة فعل قراءة الحكاية التي عمد السارد إلى تجزئتها إلى وحدات سردية معنونة.

وامتداد نص الإهداء من خارج الحكائي إلى داخل الحكائي تجلّى إرهاصه منذ شروع السارد في حكي الوحدة السردية الأولى المعنونة بـ«لقاء باسمة»: «ذات صباح بارد.. أيقظتني رائدة ملهوفة: ثمة خبر عن حفل تأبيني أقيم في مخيم اليرموك للشهيد باسم عبدالقادر، قضى إثر حادث أليم على أوتوستراد المزة.

– في الخبر مذكور اسم زوجته باسمة البلجيكية الأصل.

اختطفتُ الجريدة، ورحت أنقب فيها حرفًا حرفًا، لاريب أنها ابنة إيفا، وهذا هو باسم أخيرًا. كم تأخر هذا اللقاء!

كنت عازمًا على الذهاب إلى دمشق؛ لترتيب أمور زيارتي القريبة لتونس، وفي مخيم اليرموك غادرت باسمة فور انتهاء الحفل إلى عمان؛ لتودع وابنها أهل زوجها قبل مغادرتهما إلى تونس، حيث طلب إليها أن تحضر مع الطفل أول الشهر القادم. أسعدني هذا، وخفّف عليّ وقع اسم إيفا في سياق بعض الأحاديث مقرونًا بالإكبار والأسى واليقين من موتها بعد هذه السنين من الاختفاء، لابد أن يكون لدى باسمة وحدها الكثير عن أمها.. سوف ألقى باسمة أخيرًا.. وينبغي علي أن أغادر أول الشهر… مثل هذه الدعوة لي إلى تونس لا تتكرر..

في الصباح بكّرت إلى المطار… في قاعة الانتظار رأيت سيدة متشحة بالسواد.. انتفضت محدقًا: أتكون هذه هي باسمة؟… نهضت.. غدوت قربها.. اندفع ابنها يجري، وكاد أن يصطدم بي، توقف، ورحت أداعب شعره.. سألته عن اسمه، فرد:

– قيس.

ونطقتْ بعد لأي:

– باسمة.

وددت أن أحضنها، وأهتف بها:

– ها أنذا، وإن جاء اللقاء متأخرًا!

قبل أن تربط الحزام كنتُ قد قدمتُ نفسي، بهتت، وضحكت، وقبلتني، وجعلت قيس يقبلني… باسمة لا تقبل دعاوى الخيبات والمعاناة واليأس، قالت إن خلافها مع باسم كان يتفاقم حول ذلك، وهو الذي يأخذ عليها وساوسها قبل أن يغادر بيروت مع المقاتلين الذين غادروها صيف 1982.

تمنيت لو أنني التقيت باسمة منذ زمن بعيد.. أرخيت رأسي على مسند المقعد أحاول بدوري النوم.. غرقتُ فيما سمعت منها، بات التذكر أيسر عليّ، حضرتني إيفا، دمشق منذ عشر سنين، حلب، زويا، باسمة، ولد فلسطيني لم أكن أعرف- حين قرأتُ في الجريدة، سوى أنه باسم…

رمتني بأشتات أخرى عن إيفا، سوف أحاول ضفر هذه الأشتات عما قليل، وأسوقها وحدها.. عبرتُ عن فجيعتي بباسم مثلما بإيفا.. عبرت عن امتلائي بقيس وبها وبهذا العالم.. وكانت تبدو قريرة ساهمة بعيدة وقريبة…

لا باسمة، ولا إيفا، لا باسم ولا قيس، لا أحد منهم بارحني طوال الأيام الثلاثة التالية التي قضيتُها في قابس، كنت أسبح في عالمهم… كنتُ نهب عناصر ومشاعر متناقضة من حلب إلى بيروت، من اليرموك إلى أوتوستراد المزة، من الصور التي رسمتها لوالد باسمة، ولجأت إلى الصور التي رسمتُها للأسرى الروس ولبلدة إيفا، بتُ أعرف جيدًا ساحة البلدة، ذلك الجسر، المنجم القريب، المعسكرات التي اندفعت إيفا وباسمة إليها، وجهدتُ في مغالبة الشعور بالإثم، وأنا أفكر تارة في إيفا، وتارة في باسمة، لقد غدتْ إيفا جزءًا آخر من كياني.. مثل باسم أيضًا.

حين افترقنا عند بوابة المطار، كنا قد اتفقنا على اللقاء عقب الندوة في فندق البلفدير الذي سأنزل فيه أثناء إقامتي في تونس العاصمة، وكانت المفاجأة الأولى حين دخلت الفندق أن لا خبر منها..

في الصباح نهضتُ باكرًا.. لابد أنها ستظهر هذه اللحظة قبل تاليها، لكن ساعات مريرة انقضت قبل أن يكون هذا… ولما سألتها عن قيس بدت حائرة بين الغبطة والقلق من استغراقه مع أقرانه في روضة أطفال الشهداء… أكدتْ أنها اكتشفت آباء وأمهات وأخوة كثيرين لقيس، إنه بالأحرى ابن هؤلاء، لا ابنها هي، إنه فلسطيني وحسب، أكثر مما كان أبوه، وليس لبلجيكا فيه نصيب، وعبرتْ عن أساها لهذا الشتات الذي وصل بالفلسطيني إلى تونس، وتساءلتْ عما يمكن أن يقود إليه أيضًا بعد تونس.

وحين غادرتني في المساء كان اليقين يملؤني في أنني غدوتُ إنسانًا آخر غير الذي أعرفه منذ عشرات السنين…

ثلاثة أيام أخرى قضيتُ أنتظر في الغرفة، في بهو الفندق، في المطعم، لا أجرؤ على المغادرة.. حتى آن أن أتوجه إلى المطار.. هبطت الطائرة في دمشق… عليّ أن أمعن في هذا المدى، في الأمداء كلها، كنتُ بإيفا، فإذا بي بإيفا وباسمة… لا تكاد تومض نجمة حتى تختفي.. عليّ أن ألقى باسمة في ركن ما من هذا العالم مثلما ألقى مع كل نبضة إيفا وباسم في قلبي»9 عنوان هذه الوحدة السردية المكونة من ملفوظين، هما: «لقاء باسمة» يعيد المتلقي مباشرة إلى نص الإهداء المتعالق مع نص الاستهلال، لأن ملفوظ «باسمة» ورد في نص الإهداء بصفته أحد الأسماء التي أهدى الروائي نصه إليها، وورد في نص الاستهلال في سياقين: الأول تمثل في تصريح الكاتب بنيته في الكتابة عن «باسمة» فقط، والثاني تمثل في فاعلية لقائه بها الذي ترك أثرًا فجّر جراح الماضي، وقيمة هذه العودة تكمن في تأكيد دور «باسمة» المركزي في تشكيل أبعاد الحكاية التي بدأ السارد يعرضها إلى المتلقي.

والمادة الحكائية المندرجة تحت هذا العنوان تضمنت امتداد نص الإهداء إلى سياقات الوحدة السردية متخذًا المظاهر الآتية: تواتر لفظي لاسم «باسمة»، اقتران اسمي «إيفا» و«باسمة» بصفة «إيفا» أمًا لـ«باسمة»، تقديم «باسمة» لزوجها «باسم» بصفته مقاتلًا فلسطينيًّا غادر بيروت صيف 1982، وورود الولد الفلسطيني في سياق تفضيل السارد، وتذكر شخصيات ماتزال مؤثرة في ذاته، وتموضع أسماء «باسمة وإيفا وقيس» في سياق إعلان السارد عن وقوعه تحت هيمنة هذه الشخصيات، الحديث عن عائلة «باسمة»، وبلدتهم في بلجيكا، تأكيد هوية الطفل قيس الفلسطينية، إعلان السارد عن رغبته في وجوب لقاء «باسمة» في مكان ما من العالم. وفاعلية هذه المظاهر تتجلى في جعل المتلقي – وهو يتلقى المادة الحكائية- ينتقل من داخل الحكائي إلى نص الإهداء المتموضع في خارج الحكائي، وبهذا الانتقال تتم عملية تعضيد الصلة الكائنة بين نص الإهداء والحكاية منذ بدء شروع السارد في عرض الحكاية على المسار السردي.

وحضور نص الإهداء في هذه الوحدة السردية لم يقتصر على صلته اللفظية الناهضة على تلفظ الأسماء المهدى إليها النص الروائي؛ لأنه تعالق مع المكونات الحكائية التي تكوّن بنية النص الشكلية بفعل حضور «باسمة» التي تعد أساس هذا التعالق، وعلى مستوى الشخصية الروائية كشف حضور الإهداء نمط العلاقات الكائنة بين الشخصيات الروائية التي يمكن وصفها بأنها علاقات ود وتآلف.

وعلى مستوى المكان الروائي تجلّى تعالق نص الإهداء بالمكان من خلال تحديد السارد ثلاثة أمكنة تنتمي إليها الشخصيات الروائية العربية، وتحديد مكان أجنبي تنتمي إليه الشخصية الروائية الأجنبية، تذكّر المتلقي بالأسماء الواردة في نص الإهداء، فالأمكنة العربية، هي: «مخيم اليرموك» بصفته مرجعًا لمعرفة شيء عن الشخصية الروائية باسم، و«بيروت» بصفتها مكانًا طاردًا للمقاومة الفلسطينية عام 1982، و«تونس» بصفتها مكان شتات جديد للفلسطينيين. أما المكان الأجنبي فلم يعمد السارد إلى تحديده بالتسمية الدقيقة، لأنه سماه باسم البلد الواقع فيه، وهو «بلجيكا» بصفته بلد الشخصية الروائية «إيفا» التي انتسبت إلى أحد المعسكرات الموجودة فيه.

والملاحظ في هذا التعالق الكائن بين نص الإهداء والمكان أن السارد عمد إلى التوسيع المكاني بفعل انتقاله من المكان المحدد الضيق (مخيم اليرموك) إلى الأوسع عربيًّا (بيروت) إلى الأكثر اتساعًا على المستوى العربي (تونس) إلى الأقصى اتساعًا على المستوى العالمي (بلجيكا). هذا التوسع في الحيز المكاني اقتضاه أمران: الأول العودة إلى ماضي الشخصية الروائية «باسمة» ذات النشأة على نزوع المقاومة بفضل تربية أمها «إيفا»، والثاني تهيئة المتلقي للحديث عن دور المقاومة الروسية للغزاة النازيين. وقيمة هذا الاشتغال السردي تكمن في أنه سيكون أساس تجاور الكفاح المسلح ضد الغزاة النازيين والصهاينة من قبل الروس والفلسطينيين، وسيكون أحد المعاني التي تشارك في تشكيل الحكاية.

وهو نتاج مقتضى التماثل في الحدث الروائي الذي يجري في أماكن متنوعة ومتباعدة جغرافيًّا، ولكنها تبدو متقاربة ومترابطة بفعل مبدأ «التجاور القصدي» على المستويين: الحكائي والسردي. والروائي المبدع يحرص على جعل الأماكن في نصه تبدو مترابطة على الرغم من تباعدها المادي، وهي تتصف حسب تعبير جان بيير ريشار) بـ«القرابة السردية»؛ لأنها تتصل فيما بينها بواسطة علاقات قد تكون قائمة على التماثل أو التنافر يمكنني تسميتها بـ«العلاقات المكانية»10. وهذه العلاقات ليست وحدة مسكوكة، بل تستنبط من النص نفسه. وأهميتها تكمن في جعل الأماكن أكثر قدرة على اندماج وتشكيل الفضاء الروائي، وبهذا التشكل يتم توسيع مدى الأمكنة، وهذا لا يعني على الإطلاق «أن المكان الروائي لم يعد اجتماعيًّا، بل إن اجتماعيته توسعت، واغتنت بعدد من احتمالات التأويل، وتشعبت بعناصر دلالية وإيحائية متعددة»11 وكل هذا علامة على غنى الحكاية في رواية «قيس يبكي».

وعلى مستوى بنية الزمن، نهض موعد السفر إلى تونس بدور فعّال في لقاء السارد بـ«باسمة» بعد انقطاع اللقاء بينهما لسنوات عدة، وأشعر السارد -وهو شخصية روائية- مشاركة في أحداث الرواية بشعورين متناقضين: التبرم من الثقل واللوعة حين كان ينتظر زيارة «باسمة» له في الفندق الذي يقيم فيه، والإحساس ببهجة التشكل الإنساني الجديد بعد لقائه الجميل والممتع بها. وهذا الزمن ذاتي صرف؛ لأنه زمن أدبي تخييلي خاضع لمواقف الشخصية الروائية وتحقق رغباتها.

والملحوظ في اشتغال السارد (المتماثل حكائيًّا) هو التنويع السردي في عرض المادة الحكائية المتعالقة مع المكونات الحكائية. فقد اعتمد في بناء الشخصية الروائية على تقنية «التقديم الغيري» في تقديم «باسمة» لزوجها المقاوم «باسم»، وعلى تقنية «الاعتراف الذاتي» في تقديم نفسه حين حكى وقوعه تحت سطوة الشخصيات الروائية المهيمنة على وعيه الذهني. واعتمد على تقنية «الانعطافة السردية» في توسيع أبعاد المكان الروائي بالانتقال المفاجئ من المكان العربي إلى المكان الأجنبي. وعلى تقنية «التشويق القرائي» لأنه ترك نهاية الوحدة السردية مفتوحة على المستقبل بفعل إبداء رغبته الواجبة في لقاء «باسمة» مرة أخرى في أي مكان من العالم، مما يجعل المتلقي يتساءل عن إمكانية تحقق هذه الرغبة خلال تلقي عرض بقية الوحدات السردية على المسار السردي.

وإن السارد اتخذ من تواتر تلفظه باسم «إيفا» أداة «توطئة قرائية» تعمل على تهيئة المتلقي لإدخال هذه الشخصية الروائية إلى المنظومة السردية، ولذلك سيتخذها أداة للتواصل الحكائي بفعل تقديم مادة حكائية تتجوهر على المستوى السردي حول شخصية «إيفا»، وقيمة هذا الاشتغال تتجلى في تحفيز المتلقي على البقاء داخل العالم الحكائي، وهو في حالة تشويق قرائي، مما يسهل على السارد عرض المادة الحكاية دون تعقيدات سردية.

وبشكل عام أقول: إن اشتغال السارد في هذه الوحدة السردية يمكن وصفه بـ«الكفاية السردية»؛ لأنه تمكّن من عرض المادة الحكائية إلى المتلقي دون تعقيدات حكائية أو إكراهات شكلية وفق آليات سردية حقق بها مقاصده على مختلف المستويات: «الحكائية والسردية والقرائية»، وكفاية السارد تعود في أصلها إلى امتياز الروائي نبيل سليمان بخلق سارد يتصف بالمهارة السردية منذ بداية شروعه في عرض الحكاية على المسار السردي، وهذا الامتياز هو أحد معالم جماليات إبداعه الروائي.

وبتوارد أبعاد حكائية جديدة على المسار السردي استمر حضور نص الإهداء متمثلًا بأحد الأسماء المهدى إليها النص الروائي، وهو «باسمة»، وذلك في الوحدة السردية الثانية المعنونة بـ«ماذا روت باسمة عن إيفا؟»، وقد استهل حكيها السارد المتماثل حكائيًّا، ثم ترك سدة السرد فاسحًا المجال للشخصية الروائية «باسمة» أن تكمل عرض المادة الحكائية: «كلما استعدت ما حدثتني به باسمة عن إيفا في الطائرة أو في الفندق، تضاعفت حيرتي في دقة ما روت، إنها بالأحرى شكوكي في أمانتي… لن أنسى أنها روت أمورًا عن مقاومة النازية ونهاية الحرب… ولكن لِمَ أتعجل الكلام، ودوري لما يحن بعد؟ إنه دور باسمة أولًا.

*  *  *

قالت باسمة:

1939

في ذلك الوقت المبكر من الحرب ارتبطت ماما إيفا بالمقاومة، كان المقاومون جميعًا يُنعتون بالشيوعية.. كان والدي شابًّا شجاعًا وقويًّا.. لقد جمعتهما المنظمة المقاومة مثلما جمعتهما البلدة.. كانت أسرتنا معروفة بعدائها للنازية… كان عليها أن تبحث عن أماكن سرية للمقاومين.. صارت أمي تعمل مراسلة سرية.. وكان عليها أن تنقل البنادق على الدراجة الهوائية. كانت الطائرات البريطانية التي تغير على ألمانيا تسقط أحيانًا في الغابات المجاورة، وهناك ماما إيفا تنطلق مع رفاقها ورفيقاتها لالتقاط الناجين من الطيارين وإسعافهم وإيوائهم…

وقالت باسمة:

في السنة الثالثة للحرب سيطر النازيون على منجم الفحم القريب.. حين اكتشف الفحم خاف الناس، فالشيطان وحده يحفر الأرض، ولذلك اضطر الصناعيون لاستيراد العمال من خارج المنطقة، لم يكن في البداية في المنجم سوى المغاربة والسلوفاك والمجريين. كانت ماما وصديقتها الأثيرة أليس تذهبان كل حين إلى المنجم لتحضرا بعض الفحم.. وفي الزيارة الأخيرة كان المنجم يفور بالنازيين.. لم تكن تريد أن تكلم نازيًّا…

حين دخل النازيون البلدة أول مرة، كان ثمة مطر كئيب، كانت ماما تؤكد أن ذلك الصباح كان باكيًا.. وما إن ملأ الضجيج البلدة الصغيرة الهادئة حتى هرعت هي إلى الساحة…

كان الأطفال قد أخذوا يتجمعون في الساحة، وراحوا يقتربون من الجنود ويسرقون الخبز. كان بعض الجنود من يصطنع الغفلة ويضحك، وكان فيهم من يترك الطفل حتى يسرق، فيقبض عليه، وينهال عليه ضربًا، والعيون خلف النوافذ تشهق، كان الفقر عامًّا وقاسيًا، كما الرعب، ولكن رغم كل شيء كانت المقاومة في كل مكان، كانت بألف لون ولون.

لم تقتل ماما أحدًا من النازيين، كانت تبدو لي حزينة تارة، خائفة تارة، حانقة، كانت تقضي الليل في طبع المنشورات في أحد المخابئ مع أليس وبابا وأصدقاء كثر… كانوا ينقصون واحدًا كل يوم، لكن المقاومة كانت تكبر أيضًا، الناس جميعًا – سوى قلة قليلة- كانوا ضد النازية.

وقالت باسمة:

كان ثمة في المنطقة الصناعية القريبة بورجوازي كبير من الفاشيين يملك معملًا ضخمًا، وكانت ماما قد غدت تعمل دهانة في إحدى ورش هذا المعمل، وللمرة الأولى رأت مثل سواها من البلجيك هؤلاء الشياطين، لأول مرة رأى الناس البلاشفة، كان النازيون قد ساقوا إلى المنطقة الصناعية قرابة ألفي أسير من الروس، وكان جدي يحبهم مثل ماما وخالي.. هكذا وجدت ماما نفسها تسعى للاتصال بالأسرى، راحت تتردد على المشفى حيث كانوا ينقلون المرضى منهم…

ساق النازيون الروس إلى سينما البلدة، كان ثمة أفلام عن الحرب وانتصارات النازية وخسائر الروس، وكان على الأسرى وهم مقادون إلى السينما أن يغنوا، كانت بعض الأصوات تأتي نشيجًا، عواءً يفري الكبد.. كان الطريق محفوفًا بالناس، وبين المحتشدين من كان يدس في أيدي الأسرى الخبز والسجائر.. كانت العجائز تبكي، وفجأة قفز أحد الأسرى من على الجسر، فتناثرت جثته في قعر الوادي. علا غناء الأسرى، ولغط الناس، وهاج النازيون، وفجأة رمى أسير آخر بنفسه أمام سيارة القيادة المندفعة، فتناثرت جثته على رفاقه وعلى الناس والأشجار، وعلا غناء الأسرى وبكاء الأطفال وعويل العجائز.. ويبدو أن أسرى آخرين حاولوا الهروب عبر الأشجار.. زعقت السيارة بغتة، وسُمِعَ صوت الرصاص، قبضوا على عدد من الذين حاولوا الهروب، وأعدموهم، ثم ربطوهم بالسيارة التي اندفعت من جديد، وهاج النازيون..

كان لدى صاحب المعمل سجل بالأسرى، وكان سعيدًا بتشغيلهم تحت البنادق النازية؛ لأنهم من الروس أو من البلاشفة… اختفى ذكر هؤلاء الأسرى بعد أن أعدمهم النازيون جميعًا.

وقالت باسمة:

كان خالي يتابع دراسته نهارًا، وينفذ مهماته ليلًا، وكان على ماما أن تعمل لتأكل وتطعم شقيقها.. كانت تركب الدراجة وتقطع المسافات الطويلة بين الغابات، قرب الحدود بحثًا عن الخبز لدى الفلاحين.. بات الطعام مشكلة حقيقية.. كان على كل من تجاوز الحادية والعشرين أن يعمل إما في بلجيكا أو في ألمانيا، كان العمل إلزاميًّا، وكانت دوريات النازيين تفتش في الشوارع عن بطاقة العمل، فإن صادفت أحدًا دون بطاقة تسوقه إلى السجن، أو إلى ألمانيا.

هكذا التحقت ماما بمعمل ذلك البرجوازي الفاشي. ادعت أنها تعمل دهانة، وسرعان ما غدت مبرزة في عملها.. ومرة صاح الجندي:

– هيا اخرجوا إلى الساحة.

خرج الرجال فيما الجيران يتزاحمون على النوافذ والأبواب، كان ثمة آخرون يقادون من البيوت المجاورة، حتى امتلأت الساحة بالرجال. كان الجنود يلغطون والرجال يتدافعون، بدا أن كلًّا منهم كان يحسب نفسه أول من سيقع، وبدا أن كلًّا من الجنود يريد أن يقتل على طريقته، وجاء صوت سيارة مندفعة من جهة الجسر، فلوت الأعناق إليها، وقفت السيارة قرب أول الجنود بصوت مدوٍّ:

-هل سمعتم بإنذار إيزنهاور وبمعاقبة كل ألماني يسيء إلى المدنيين؟ ماذا تفعلون بهؤلاء؟ هيا اصرفوهم إلى بيوتهم وعودوا إلى مراكزكم…

وفي ذلك النهار تردد أن الألمان يغادرون المنطقة كلها مصطحبين معهم الأسرى الروس، فأقبل الناس يهيئون الأعلام وشارات الفرح، وفي المساء ارتفع علم في الساحة… حتى استفاق الناس في صباح غائمٍ على صخب الجنود الأمريكيين»12.

السارد استهل حكي هذه الوحدة السردية بالحديث عن حيرته عما حكاه عن «إيفا» الناتجة عن شكه بالأمانة التي يتحلى بها، وكأن عقله لا يتقبل مصداقية حكيه، مما حفزه على استدراج الشخصية الروائية «باسمة» إلى سدة الحكي، لتحكي ما تعرفه عن أمها. فواصلت عملية عرض الحكاية التي نهضت سياقاتها الحكائية على أبعاد شخصية أمها (إيفا) الشكلية والمعنوية، مبرزة دورها الوطني الشريف والأخلاقي في مقاومة النازية؛ وأبرز المزايا التي تحلّت بها «إيفا» وعملت «باسمة» على تجسيدها في وعي المتلقي:

* النفور من فئتين محددتين: المثقفين والماركسيين؛ لأنهما –حسب اعتقادها وتجربتها الحياتية- معهم أكثر الناس ميلًا إلى التنظير الكلامي وبعدًا عن الحياة العملية، وقيمة هذه السمة تكمن في الإيحاء بأنها صاحبة نزوع عملي، وبهذا تُرتسم في وعي المتلقي هذه السمة الجوهرية منذ مطلع الحكي عنها بهدف توجيه وعيه إلى استقبال مادة حكائية لا تتسم إلا بالجوانب العملية في شخصية «إيفا».

* الانتماء إلى أسرة عريقة بالوطنية ومعروفة بكرهها للنازية.

* الارتباط المبكر بالمقاومة الوطنية المناهضة للنازية.

* ممارسة المقاومة الوطنية المتمثلة بـ«البحث عن أماكن سرية آمنة للمقاومين. المراسلة السرية بنقل البنادق لرجال المقاومة. إسعاف الطيارين البريطانيين الناجين وتأمين إيواء لهم».

* السعي الذاتي لتأمين لقمة العيش الشريفة عبر الحدود، والسعي لتأمين بطاقة عمل حسب إكراهات النازية القسرية.

* النظر إلى سلوك الجنود الألمان مع أطفال البلدة بموضوعية.

* الميل إلى التواصل مع الأسرى الروس الذين أُكرهوا على العمل في المنطقة الصناعية والتعاطف معهم.

* الاعتزاز بالمقاومة الوطنية وتمجيد اتساعها رغم تناقص عدد المقاومين بفعل القتل.

والملاحظ في هذه الملامح التي تكوّن شخصية «إيفا»، أن هذه الشخصية الروائية تمتاز بوعي سليم للواقع مكّنها من التكييف مع أبعاده المتغيرة عبر تعاقب الزمن وبالبراعة وحسن التدبير في مواجهة تداعيات الحرب والتغلب عليها. وأن نزوعها الوطني المبكر منذ بداية الحرب هو سلوك عفوي وانتماء ذاتي. وأن ممارستها للمقاومة تجسيد لمفهوم الوطنية المتمثل بأنها سلوك نبيل ومواقف بطولية واجبة ومستحقة لا تقبل التراخي والتقاعس والامتناع، وهذا ماثل في الوعي الأخلاقي، وهو أحد معالم الحضارة الإنسانية.

وتعاطفها مع الأسرى الروس والتألم على من قُتِلَ منهم علامة على سمو نزعتها الوجدانية ورقي مشاعرها الإنسانية التي تتجاوز الحدود المادية لجغرافيا الوطن.

فعرضُ أبعاد هذا النزوع الوطني الذي صار تيمة حكائية ليس مجانيًّا، لأنه يتقصد تقوية الانتماء الوطني في وعي المتلقي ووجدانه، وهو يوحي إلى أصالة الروائي نبيل سليمان المحب للإنسان صاحب النبل والمواقف الوطنية.

وعلى المستوى السردي نلاحظ أنّ السارد جزَّأ هذه الوحدة السردية إلى مقاطع حكائية عدة، المقطع الأول استهل عرضه، ثم ترك المجال للشخصية الروائية لتكمل عرض بقية المقاطع الحكائية، وقد عمد إلى فصل المستهل السردي الذي حكاه بثلاث نجمات طباعية عن المقطع الأول الذي حكته «باسمة»، واستخدم لازمة سردية (قالت باسمة) بلون طباعي غامق في مطلع كل مقطع، ليلفت انتباه المتلقي إلى أن هذه المادة الحكائية التي تتوارد على المسار السردي نتاج تجربة حياتية من صلب الواقع مشاهدة بالعين ومدركة بالعقل من قبل طرف قريب من الشخصية الروائية التي تُحكى أفعالها إلى المتلقي، وليست نتاج سمع قد طرأ عليه نوع من التزيد أو التوهم. والهدف من هذا الاشتغال السعي إلى نيل إقناع المتلقي بمصداقية هذه الأفعال التي نهضت بها «إيفا» والتي قد تبدو فوق قدرات امرأة في ظل حرب شرسة تأكل البشر والحجر.

وهذا ما يفسر لنا تجلي حكي هذه الوحدة السردية بالانسيابية، إذ تتالت المادة الحكائية على المسار السردي دون أية إكراهات سردية؛ لأن السارد انزاح عن التدخل في حكي الأحداث الروائية التي تحكيها «باسمة» عن أمها، وبهذه السمة السردية تحقق التناغم التلقائي بين السارد العليم والشخصية الروائية المشاركة في عرض الحكاية، مما أكسب النص الروائي على المستوى السردي أحد أبعاده الجمالية.

وأن الأحداث الروائية التي حكتها «باسمة» تتسم بتجاور البطولي والمأساوي بحكيها مشهد اقتياد الأسرى الروس إلى السينما وموت أسيرين: الأول بإلقاء نفسه من فوق الجسر إلى قعر الوادي والآخر برمي نفسه أمام سيارة المسؤول الألماني. فكل واحد منهما اختار أن يموت بطريقته الخاصة هربًا من الشعور بالإذلال من عدوه والموت على يديه. وهذا من شأنه أن يشحن الحكاية بالملامح الدرامية التي تؤدي إلى خلق الانفعال في وجدان المتلقي والتأثير فيه بفعل إمداده بمعطيات حكائية صادمة، وهذا الاشتغال يُعَدّ أحد مقاصد النص الروائي الذي «يعمد إلى تصعيد مستوى انفعال المتلقي من خلال كسر قيود الرتابة بصدمه أو إذهاله، وهذا الأمر دعا إلى دراسة مكثفة للاستراتيجيات السردية التي تجعل المتلقي يتقبل النص الروائي كتجربة صاعقة»13 تترك أثرًا مدويًّا في وجدانه ووعيه الذهني.

 

وهذا ما يفسر الحافز الذي دفع «باسمة» إلى أنسنة بعض ظواهر الطبيعة (مطر كئيب، الصباح كان باكيًا) بفعل إضفاء مشاعرها الراهنة لحظة رؤيتها اقتياد الأسرى الروس على الطبيعة التي باتت بماهية جديدة اكتسبتها من ذات «باسمة» التي تعاملت مع المادة الكونية بمنحى شعوري، حيث أدخلتها إلى النص الروائي بتلك السمات الإنسانية تلبية للرغبة في استظهار ما هو داخلي وفق علاقة تبادل شعورية تنهض على مبدأ التناغم والانسجام بين الإنسان والطبيعة بهدف التعبير عما يمكن تسميته بـ«قلق الروح» وهو تعبير عن موقف خاص، ولذلك يُعَدُّ تحديد هذا الموقف مجابهة، لأن المجابهة تقتضي الإفصاح عن رأي أو قرار أو سلوك أو شعور، عندها ندرك أن الموقف تشكيل خاص ضمن الواقع، يتضمن زمانًا ومكانًا يعطيان للموقف بعدًا مأساويًّا تتلون فيه المشاعر بحسب طبيعة الحدث الجاري في المكان في زمن ما، كما أن المجابهة لا تكتسب بعدها الإنساني التراجيدي إلا من خلال تشابك عناصر الموقف مع عنصري الزمان والمكان في إطار وعي خاص باللحظة القائمة14 وسط المحيط الكائن فيه. فهذا الموقف تعبير عن أصالة «باسمة»؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون أصيلًا إلا بمقدار ما يتصور نفسه، أو يستشعر نفسه بوصفه جزءًا من مجموع في صيرورة، ويضع نفسه ضمن بعد اجتماعي15، يعبر عنه سلوكيًّا وإبداعيًّا، ولذلك يُتخذ النص الروائي طريقة للتفكير والتعبير وتحديد موقف حضاري.

وقيمة هذا الاشتغال على مستوى التلقي تتجلى في إدهاش المتلقي بالحياة التي يبثها الأديب في مواد الطبيعة الكونية التي ضمّنها مشاعره وأحاسيسه بالأسى والحزن والتعاطف مع الآخرين، ونحن ندرك أن ظواهر الطبيعة ومظاهرها تبدو أكثر عمقًا وتأثيرًا حين يمنحها الإبداع المعاني الرمزية التي تجعلها تبدو في حلة جميلة أكثر من جمالها الحقيقي، لكونها مستقاة من الجمال الإنساني، وفي هذه الأنسنة تُدرك خصائص الأشياء الجديدة في النص الروائي من خلال علاقاتها بالحكاية والمقصد الغائي من تشكل بُعدها بهذه الرؤيا، وتأخذ عملية التذوق الأدبي مجراها الطبيعي في وجدان المتلقي16 ووعيه، وتحفيزه على اتخاذ موقف حضاري تجاه مأساة هؤلاء الأسرى. ومن هنا يمكن القول: إن هذا المعنى الذي يعد أحد معاني الحكاية يتحلى بـ«القوة الحكائية» لقدرته على جعل المتلقي يترفع عن سطحية التلقي من خلال انفعاله بتلك الحالة المأساوية، وبذلك يكون النص الروائي قد عمق استمالة المتلقي، وقوى أواصر العلاقة القرائية الكائنة بينهما، فتختزل مسافة التلقي بين النص الروائي والمتلقي، وبهذه القيمة الجمالية يحقق النص إحدى مصداقياته الروائية.

وعن هذا المشهد أقول: إن «باسمة» عرضت وفق الرؤية البانورامية مشهدًا حركيًّا يمتاز بكم بشري كبير وسط مجال مكاني ذي خصائص مميزة، تداخلت فيه الأصوات والحركات بمستويات تتصاعد تدريجيًّا بفعل تواتر انفعال الشخصيات التي تتحرك والمشاهدة لمن يتحرك والألوان: (لون الأشجار، لون دماء القتلى الروس) مشكلة لوحة تشكيلية قابلة للتصور الحركي في وعي المتلقي كحركة عناصرها في الواقع، وقيمة هذا التشكيل القريب إلى التصوير السينمائي أنه يُبقي صورة المشهد المؤثر عالقة في الذهن. وهذا هو مقصد «باسمة» من هذا الاشتغال السردي الدال على البراعة السردية.

وبالنسبة لحضور نص الإهداء في هذه الوحدة السردية، فقد ظل حاضرًا دون انقطاع بفعل استخدام اللازمة السردية «قالت باسمة» في مطالع المقاطع الحكائية التي تضافرت مشكِّلَة الوحدة السردية، وتلفظها من قبل السارد يذكّر المتلقي مباشرة بنص الإهداء، لكون ملفوظ «باسمة» أحد الأسماء التي وردت في نص الإهداء، وبهذا التذكر ينتقل المتلقي من داخل الحكائي إلى خارج الحكائي/نص الإهداء، فيقوم بعملية ربط بينهما تعمل على ضفر العلاقة الكائنة بين الإهداء والحكاية التي تتوالى أبعادها على المسار السردي، وترسيخ المعاني الحكائية في ذهن المتلقي بتنويعات سردية، تمكّنه من ملامسة حوافز ورود اسم «باسمة» في نص الإهداء.

وقيمة هذا النزوع السردي تتجلى في إضفاء الحيوية على المسار السردي لحمايته من علل الرتابة باستدراج ملفوظات عن «أسماء وأقوال وأفعال» تمتلك جمالياتها السردية القادرة على إبهاج المتلقي.

وحضور نص الإهداء في الوحدة السردية المعنونة بـ«ما أمكن تسجيله من اللقاء بإيفا» تجلّى بشكل صريح بفعل تلفظ السارد لاسمين، هما: «باسمة» و«الولد الفلسطيني»: «كان ربيعًا ساخنًا ذلك الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية اللبنانية… في أحد مقاهي دمشق التقيت إيفا… كان عليّ أن أعود إلى حلب في اليوم نفسه. وبعد دقائق كنا نتوجه إلى أحد أقبية الجسر الأبيض لتحضر إيفا حقيبتها.. لم تكن رائدة في المنزل حين وصلنا… بدا منذ النتف الأولى أن لديها الكثير… خلدتُ إلى أن رائدة سوف تسعد حين تعلم أن إيفا هذه مناضلة من تلك البلاد البعيدة القريبة، تلك البلاد التي تلعنها صباح مساء، ونحلم بها صباح مساء، وإيفا تناضل منذ سنين هنا معنا، من بلد عربي إلى آخر… وتكتب الشعر والأبحاث. إيفا تناضل منذ سنين هناك معنا أيضًا، من بلد أفريقي إلى آخر.

قضت طفولتها تنتقل من قرية إلى أخرى في شمال ألمانيا بسبب عمل أبيها في الجيش. عبرتني أسماء القرى والمخافر التي قضيت طفولتي متنقلًا بينها بسبب عمل والدي في الدرك… أورثتني حسرة دائمة على المكان، أما إيفا فقد مكّنتها من اكتشاف العالم مبكرًا رويدًا رويدًا، كما قوّت طموحاتها ومقدرتها على التصور. حاولت أن أرسم صورة واضحة لعامودا، الدرباسية، قبور البيض، العضامية، أنحاء شتى من الجزيرة.. لا أثر لها في النفس.. إيفا رسمت بشفافية وبهاء بيوت القرى الألمانية النظيفة المسوّرة بالحدائق.

تكره المدرسة والبيت، ولذلك فرت مع الفجر عدة أسابيع قبل أن يعثر أبوها عليها، ويودعها مدرسة داخلية كاثوليكية… وددت أن أحدثها عن الشيخ كامل الذي علمنا القرآن بالعصا، هي تدعي أن المدرسة الداخلية علمتها الانضباط والنظام.

صحوت على رجفة صوتها وهي تذكر باسم وباسمة.. كانت تغص، توشك أن تبكي… إذ كيف يجند في الجيش ذلك الطفل الفلسطيني الناحل الذي لمَّا يحلق ذقنه بعد؟ كيف يرفض باسم التجنيد، ويلتحق بأحد المعسكرات في الغور في الأردن؟

ولا بد أن باسم لم يعد اليوم ذلك الطفل الذي كان ربيع عام 1967 قبل الهزيمة بشهور. كانت هي في مؤتمر للكتاب الآسيويين والإفريقيين، وتلك هي صيدا، وإيفا تلتقي بأول فلسطيني يحدثها عن قضيته، تسأل الطفل:

– أنت لبناني؟

يؤكد باسم:

– أنا فلسطيني.

تسأل إيفا:

أنت لاجئ؟

يؤكد باسم:

– أنا فلسطيني.

تسأل إيفا:

– أين تعيش؟

يقول باسم:

– في المخيم.

ويشير إلى البحر.

تسأل «إيفا»:

– كيف؟ أنتم من الكشافة؟

يهزأ منها باسم، ويروح يشرح كيف قدم أهله من تلك الجهة على مسافة كيلومترات، ورأسه يومئ إلى الأرض المحتلة. الطفل يؤكد لها أن الفلسطيني هنا، في لبنان، ليس مواطنًا من المسموح له أن يعيش هنا كسواه… وإيفا تتعجب من أن أحدًا لم يحدثها قبل باسم عن فلسطين على الرغم من أنها كانت قد زارت عدة بلدان عربية، باسم هو الذي قال لها: إن إسرائيل قد أخذت أرضه، فلم تصدقه أول مرة. قال إنه عربي فاحتارت في أمره، قال إنه لم يولد في أرضه، وإن أهله كانوا قد زرعوا قبل طردهم من أرضهم وردًا جميلًا أمام البيت، هو الذي كان يعزيه، لأنه لم يشم رائحة الورد.

كانت تتفجر نزوعًا إلى الحرية، صلتها بإفريقيا وبالماركسية تتوثق… لقد انعطف بحياتها، باسم وهزيمة 1967… كانت على وشك السفر إلى فيتنام الملتهبة، لكن الهزيمة عطلت السفر. لقد تأكد لها أن أصدقاءها اليهود يحتلون أراضي أخرى، وحين حاولت من بعد مع رفاقها في المنظمة دراسة حرب الأيام الستة، رفض الرفاق اليهود الآخرون حماستها للأمر.. ضحكت أسيانة، وربما هازئة، لقد جعلها باسمة والهزيمة تغادر المنظمة وبلجيكا.

في مصر بدا لها الناس كسالى.. نجوم الصحافة والفكر يقضون الليل في النوادي ويتصيدون النساء، بينهم من كان يهمس منذ ذلك الحين أن الوقت قد أزف للحكي مع إسرائيل، وبينهم من يؤكد أن سورية هي سوسة البلاء. إسرائيل كانت تريد سورية… التقت في ذلك الخريف بأمريكيين يستخرجون الغاز من السويس والشركة التي يعملون فيها تابعة للجيش الأمريكي. كانت الصدمة والتناقضات والمفاجأة تضغط عليها جميعًا في البداية… مصر عظيمة، سرتْ الطمأنينة فيّ وأنا أقرأ مصر في عينيها إذ لم تلتق في مصر بمن يعرف إسرائيل، قالت إن إسرائيل بدت مجهولة كالقمر… نغص هنأتي بها وبمصر عزمها على زيارة إسرائيل… تذكر حارة الفندق الصغير الذي نزلت فيه لدى وصولها إلى تل أبيب، وفي اليوم نفسه قابلت مسؤولين في الهستدروت، وآخرين في المابام… وفي كيوبتزات أمابام التقت بآخرين يدّعون أنهم يعيشون حياة شيوعية كاملة، لكنها اصطدمت بهم، وعلا صوتها كأنها تصيح في وجوههم:

– البلجيك أنجزوا في الكونغو أضعاف ما أنجزتم هنا، ومع ذلك فالكونغو ليست لنا.

رد عليها شاب ساخرًا:

– هذا غلطكم. الأرض لمن يعمل بها.

فثارت ثانية:

– أرضكم بأي حق؟

وضحكت متابعة:

– أجابتني امرأة: بحق الله، وأيدها الشاب، فسألتهم: أهذا كلام ماركسي؟ أهذا كلام بالأحرى؟ وغادرتهم آسفة.

غادرت إيفا إسرائيل. ظلت شهورًا عاجزة عن الكتابة في بلجيكا، لكنها راحت تتحدث في بعض التجمعات عن فلسطين.. حتى عادت إلى المنطقة من جديد، والتقت بباسم ثانية في أحد المعسكرات في الأردن.

حسدتها أن أتيح لها أن تحضر المؤتمر الفلسطيني في الجزائر أواخر ذلك العام، ومن الجزائر عادت إلى عمان، واستضيفت في فندق فخم، حيث قابلت كمال ناصر، وطالبت بزيارة المعسكرات، وابنتها لا تزال في أحد تلك المعسكرات.. وقبل أن ينقضي الشهر رافقت مجموعة من الفدائيين في عملية صغيرة ومضمونة.. وصوتها يهمس:

– استعدت في تلك الفترة القصيرة شبابي الأول، شبابي البعيد حين كان النازيون في بلجيكا.

كانت تُقبل على درس الماركسية… والمجلات تنشر لها كل ما تكتبه، والنقاد يحتفون بها، تعمر بالشجاعة، تغدو أقدر على فهم العالم وحبه. تنضوي في تنظيم جديد، زوجها جاك الفقير الملاحَق بالمتاعب يفقد ثقته بالماركسية، فيما يمتلئ نسيجها بها… تغادر إلى الكونغو لتعمل سكرتيرة في السفارة، تبدأ حياة جديدة في إفريقيا، وفي بلاد العرب… وما إن انتهينا من الغداء، حتى أسرعت إيفا إلى حقيبتها ووداعنا»17. يتجلى حضور الإهداء في هذه الوحدة السردية متمثلًا بملفوظين من الأسماء المهدى إليها في نص الإهداء، وهما: «باسمة» والولد الفلسطيني، فاسم «باسمة» ورد بصفته مبررًا في سياق تقديم المبررات التي تسمح لـ«إيفا» بزيارة المعسكرات الفدائية في الأردن، وهو كون ابنتها «باسمة» موجودة في أحد هذه المعسكرات. هذا السياق الحكائي الناهض على فدائية «باسمة» يستوقف المتلقي، ويعيده ذهنيًّا إلى نص الإهداء في خارج الحكائي. فيقوم بعملية ربط ذهني بينهما، توحي إليه بأحد حوافز إهداء الروائي روايته لهذه الشخصية الروائية، وقيمة هذه الملامسة تكمن في قدرتها على تحفيز المتلقي على الشروع في تلقي المادة الحكائية الناهضة على «باسمة» باهتمام قرائي.

أما الملفوظ الثاني المتمثل بالولد الفلسطيني فقد ورد في سياق استغراب «إيفا» من كونه نحيلًا لم يحلق ذقنه بعد، ويلتحق بأحد المعسكرات الفلسطينية في غور الأردن. فالسياق الحكائي الناهض على نزوع هذا الفتى الفلسطيني إلى العمل الفدائي في وقت مبكر من عمره، أدهش تلك المرأة الأوربية «إيفا»، ويستوقف المتلقي، ويذكّره باسم الولد الفلسطيني الوارد في نص الإهداء، فيقوم ذهنيًّا بعملية ربط بينهما، تبيّن له أحد الموجهات الإيديولوجية الكامنة وراء جعل الروائي يهدي روايته لهذا الفتى الفلسطيني اليافع، وتحفزه على أن يتعقبه على مستوى التلقي بشغفٍ قرائي.

إن استغراب «إيفا» من موقف هذا الفتى الفلسطيني بالانضمام إلى المقاومة المسلحة ناتج عن إعجابها بنضاله الوطني، ولأنه يوحي إلى المتلقي بوجود معرفة مسبقة كائنة بينهما، اقتضى المنطق الحكائي منها أن تحكي علاقاتها معه، كيف بدأت؟ وكيف تطورت من المستوى الفردي إلى مستوى القضية الكبرى التي يجب أن تدافع عنها على مختلف المستويات الحضارية بصفتها امرأة صاحبة نزوع إلى المقاومة الوطنية ضد مظاهر الظلم والعدوان؟

وقد استهلت الحديث عن علاقتها به مستخدمة تقنية الاسترجاع الحكائي، فعَدَّت لقاءها الأول به في جنوب لبنان قبيل حرب حزيران أول احتكاك لها بالقضية الفلسطينية رغم زياراتها لبلدان عربية عدة، مما جعلها تتعجب من هذا الوضع الدال على عدم اكتراث العرب بالقضية الفلسطينية كما ينبغي، وعرفت بفضله أن إسرائيل احتلت أرضهم في فلسطين، وطردتهم منها، والألم يفري قلوبهم حزنًا عليها.

ولأن هذا اللقاء الصادم المتزامن مع حرب حزيران الذي أضاف إلى وعيها معرفة جديدة، لابد أن يترك آثاره في وجدانها ووعيها، فقد عمدت إلى تبيان تداعياته:

* جعلها تغادر المنظمة وبلدها بلجيكا بعد رفض الرفاق اليهود في المنظمة مناقشة دراسة أعدتها عن حرب حزيران.

* شعرت بالسرور خلال زيارتها لمصر؛ لأن إسرائيل مجهولة فيها، ولأنها لم تقابل مصريًّا يعرف إسرائيل ويتكلم لتقريب المسافة معها.

* تعمدت زيارة إسرائيل لفعل ما هو مناسب للقضية الفلسطينية. قابلت الكثيرين، ولما صُدمت بمن يرفعون راية الشيوعية وهم متحمسون لاحتلال فلسطين، غادرتهم غير آسفة.

* مارست نشاطات اجتماعية في أوربا لتتحدث عن فلسطين والعرب وإسرائيل

* عادت إلى الوطن العربي للقاء «باسم» مرة ثانية في أحد المعسكرات في الأردن.

* رافقت مجموعة من الفدائيين في عملية صغيرة ومضمونة قبل مضي شهر على وجودها في المعسكر.

والملاحظ في لقاء «إيفا» بـ«الولد الفلسطيني/باسم» أن السارد اتخذ منه أداة للتواصل على المستوى الحكائي بتقديم مادة حكائية تتعلق بقضية فلسطين وموقف «إيفا» المرأة الأوربية منها. وهو موقف يوصف بأنه ينتمي إلى الكفاح الوطني، ولأنه سلوك إنساني عام عمل السارد على تجسيده سلوكيًّا وفق آليات التقاطب الثنائي من خلال ثنائيتين: عمرية تتمثل بـ«باسم» اليافع، وبـ«إيفا» المتقدمة بالعمر، ومكانية تتمثل بالمكان البعيد/الأوربي الذي تنتمي إليه «إيفا»، وبالمكان القريب الذي ينتمي إليه «باسم»؛ للتعبير عن أن الكفاح الوطني الناهض على رفض الظلم ومحاربة العدوان يشمل مراحل العمر الإنساني، ويقرّب البعيد، ويجعله قريبًا مثل القريب، فهو قيمة إنسانية عليا ذات بعد أخلاقي، لا تمتثل للحصر الزماني والمكاني بالمفهوم الضيق المحدد؛ لأنها نتاج نزعة إنسانية سامية متجاوزة لمظاهر الزمكان.

فهذا المعنى الإدراكي هو أحد مقاصد تشكل الحكاية، ولذلك يمكن القول: إنه الممثل الحقيقي لانبناء هذه الشخصية الروائية (إيفا) وتمظهرها بهذا السلوك القائم على تيمة المقاومة المتجذرة في وعيها وسلوكها عبر تعاقب الزمان وامتداد الأمكنة المتعددة، وهذا ما يفسر أحد العوامل الكامنة وراء تحفيزها السارد على الكتابة عنها بالتجاور مع كتابته عن «باسمة»، كما أعلن في نص الاستهلال.

وهذه التيمة لعب «الفتى الفلسطيني/باسم» الدور الأساس في إظهارها بهذا المستوى السلوكي الراقي الناهض على أخذ القضية الفلسطينية مبدأً يجب الدفاع عنه، وهنا ينكشف أحد الحوافز التي دفعت الروائي نبيل سليمان إلى إهداء روايته إلى هذا الولد الفلسطيني، وهو المقاوم «باسم».

وقيمة هذه الانكشافات التي كانت خفية تتجلى في إظهار علاقات التواصل على المستويين الحكائي والسردي بين نصي الإهداء والاستهلال والحكاية التي تضافرت وشكّلت مجتمعة ما يمكنني تسميته بـ«الحلف الحكائي»، الذي يتضمن لغزًا أبان سر إبداع هذا النص الروائي. وهذه البراعة الاشتغالية دليل على عقلنة التخييل الناتجة عن نضج الوعي السردي الذي امتاز به نبيل سليمان في إبداع هذا النص الروائي.

وإن السارد بعد أن فرغ من تبيان مظاهر السلوك الوطني الذي مارسته «إيفا» في أوروبا ضد النازية، وجسدها في وعي المتلقي، من خلال زيارتها لمدينة حلب على تقديم مادة حكائية ذات سمة مكانية صرف، أخذت حيزين: الأول، ضيق محدد بمدينة حلب تتعلق بمواقفها المتسمة بالاستغراب من بعض المظاهر الاجتماعية الناهضة على مسألة التفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء، وبين الموظفين والعمال ورغبة شريحة من المجتمع في إظهار نفسها بمستوى يفوق إمكاناتها المادية. وهذا الموقف يرجع في ماهيته إلى الارتباط الوطيد الناشئ بين الروائي والمجتمع. والمعروف أن تاريخ الرواية هو تاريخ تحول التعبير عن المجتمع وموضوعاته، واهتماماته، ولذلك تعد الرواية وسيلة فعّالة للتعبير عن المجتمع. والثاني متسع ومركب أخذ حيز وطنين: بلد السارد وبلد الشخصية الروائية «إيفا» بفعل اتخاذ اعتزازها بالمكان الذي تنتمي إليه، لتقديم مقارنة بين بعض تجليات مكانها ذات المواصفات الحضارية على المستويين: العمراني والتعليمي، وأثرهما الإيجابي في تنمية شخصيتها وجعلها تحس بجمال الحياة، وبين المكان الذي ينتمي إليه المتصف بغياب الملامح العمرانية في وعي الإنسان، وإبقاء أثر عنفها الممارس على الشخصية التي علمته في مرحلة الطفولة، وجعله يفقد نوعًا من الشعور بالتواصل الحميمي مع هذين المظهرين. والقصد من هذه المقارنة إبراز أهم الفروق الحضارية بين هذين المكانين المتباعدين جغرافيًّا والمتناقضين في الماهية وأثرهما في الإنسان. وهي ذات قيمة أخلاقية؛ لأنها دعوة سامية إلى ضرورة التحضر المدني للمجتمع المحلي؛ لأن الإنسان المبدع المحب للإنسان والوطن يأمل أن يرتقي الأدنى إلى مقام الأعلى.

وأود أن أقول في هذا السياق: إن السارد بتقديم هذه المادة الحكائية التي سعى من خلالها إلى تجسيد صورة الشخصية الروائية «إيفا» المتميزة بالنبل والنزوع الوطني والاعتزاز بالمكان في وعي المتلقي، اتخذها «توطئة سردية» للحكي عن علاقتها بـ«باسم» ونضالها الأخلاقي من أجل القضية الفلسطينية، وعمل في الوقت نفسه على اتخاذها أداة للتواصل الحكائي لتقديم مادة حكائية جديدة تندرج في الإطار العربي، تتعلق بمسألة الانفتاح العربي على العدو الإسرائيلي، وطمع الكيان الصهيوني بسوريا (إسرائيل تريد سوريا) وببدء مرحلة الاستعمار الأمريكي للمنطقة العربية متخفيًا بالمظهر الاقتصادي (الشركة المستثمرة للغاز في مصر تابعة للجيش الأمريكي). وهدفه من هذا الاشتغال السردي أن تلقى هذه الشخصية الروائية إعجاب المتلقي، وتحظى لديه بالمقبولية، وبذلك يتمكن من تسهيل وصول مواقفها الوطنية إلى المتلقي العربي، فتحقق جماليات التلقي، ولذلك يتمكن وصف هذا النزوع الاشتغالي الدال على يقظة الوعي خلال عملية التخييل الروائي بالبراعة السردية.

وإن الأحداث الروائية التي تضافرت مُشَكِّلةً المادة الحكائية المتعلقة بمواقف الشخصية الروائية «إيفا» تمتاز بالتنوع والجريان في مجال مكاني شديد الاتساع (أوروبا، الوطن العربي، أفريقيا) ناتجة عن اختراق «إيفا» لهذا المدى المكاني المتسع، وملامستها لأبرز مظاهر الواقع السياسي والاجتماعي الكائن فيه من قناعة إنسانية واعية ذات بعد أخلاقي، لرفضها الظلم والعدوان ولنصرتها الإنسان في نيل حقوقه في الحياة، وتأييده في الدفاع عن الوطن.

فاستدراج هذه الأحداث الروائية وفق آلية «الامتداد والتكثيف» وجعلها تتصف بالانسجام والتآلف تدل على العلاقة الجمالية الكائنة بين الواقعي والتخييلي في النص الروائي، وعلى المهارة السردية التي تكسب اشتغال السارد ملامح جمالية قادرة على نيل إعجاب المتلقي وإمتاعه قرائيًّا؛ بهدف تركه في حالة شغف قرائي تقتضي منه البقاء داخل عالم النص الروائي.

وحضور نص الإهداء أخذ حيزه النصي من المساحة السردية التي نهضت عليه المادة الحكائية للوحدة السردية الأخيرة التي حكاها وعنونها بهوامش، وعرضها متسلسلة وفق الحروف الهجائية:

«أ- عصر النهار التالي عادت إيفا من الرقة، واكتفت بسلام هاتفي مع رائدة، كنتُ في العمل، وهكذا بلا وداع… افتقدتها في دخيلتي… زرت بيروت قبيل الحرب، ودار ذكرها في أكثر من مجلس، من أحد مكاتب جريدة السفير، إلى الحلقات التي توزعت الناس في قاعة جمال عبدالناصر في جامعة بيروت العربية، إيفا إذن مختفية منذ سنوات… حاولت أن أتقصى أخبار ابنتها، وأخبار باسم، أو باسمة! كنتُ أحسبهما علمين مرفوعين في ذلك المدى الفلسطيني واللبناني المسلح من الحدود الجنوبية إلى البقاع وطرابلس، لكن واقع الأمر، لم يبدُ كذلك.. هكذا عدتُ خائبًا قلقًا.

ب- في بيروت علمت أن زويا قد باغتت أمها بالاسم الجديد الذي اختارته، وهو باسمة، وأن إيفا ضحكت لابنتها، ولذلك الولد الفلسطيني.. باسم. ضحكتْ للعاشقين وازدادت يقينًا في أن باسمة ابنتها هي، وأن ما لم تفعله إيفا الشابة أيام الحرب ضد النازيين، سوف تفعله باسمة ضد الصهاينة، أو النازيين الجدد، كما كانت تؤثر أن تسمي.

وفي بيروت، مثلما في مخيم اليرموك، كنتُ مثل الآخرين الذين يملؤهم العجب قبل الإكبار بموقف إيفا وباسمة منا، ومن فلسطين بخاصة… كانت الأممية والإنسانية قبلهما شعارًا ضروريًّا وجميلًا ومقنعًا… ولكن أن تجد شعارك أمامك كيانًا ملموسًا حيًّا وحارًّا، فذلك ما افتقدته بمثل هذا القرب قبلهما.

في الكونغو قرأت أثناء عملها في السفارة نثرات عن بلادنا إلى أن وَقَعَتْ على ريبورتاج عن منطقة الخليج، فكاتبت أحد الأمراء ممن عرفت أنه ذو ميول ناصرية، وعرفته بنفسها، وعبرت له عن رغبتها في زيارة بلاده.

في الخليج رأت أول مرة مَن يلبس الكوفية، ومَن يركب الجمل، رأت أيضًا الحمار أول مرة.. في تلك الزيارة عرفت الكويت والبحرين والدوحة والشارقة، ورأت العرب الفقراء والإنكليز الأثرياء، وأسعدها أن مضيفها الأمير كان شاعرًا، وكان يحتال كيما يوفر المساعدات الممكنة من الإنكليز ليبني المشافي، ويشق الطرقات، لكن الإنكليز يماطلون ولا يدفعون.

في الزيارة الثانية لبلادنا توجهت «إيفا» إلى بيروت، وفي السان جورج التقت بالأمير نفسه… باسمة تسوق أسبابًا وجيهة فيما ترى لاهتمام أمها واهتمامها هي أيضًا بالخليج ومصر، مصر خزان البشر، والخليج خزان البترول، وإذا أضفتُ الجزيرة العربية كلها والعراق والجزائر وليبيا، أكدت أن ذلك سيضاعف من وجاهة أسبابها.

الزيارة الثالثة التي كانت لإيفا إلى بلادنا، بدأت بمصر وانتهت بمصر، كانت باسمة بصحبتها، وكان الأمير أيضًا، هناك رأته باسمة أول مرة وآخر مرة، وأيقنت مثل أمها بأنه سيدفع -لا مناص- حياته ثمنًا لطموحاته، كان ذلك صيف 1966. وبعد شهور في ربيع 1967 زارت إيفا العراق، ومن العراق إلى بيروت وصيدا وباسم، فمصر، هكذا رأت نفسها ترتبط بهذه البلاد، تقرأ عنها، تفكر فيها، تنشر كتابًا بالفرنسية عن سيل الإعلانات المسمومة التي تقدم لأمثالنا في العالم. كانت تقابل القادة، وأنصاف القادة، وأرباع القادة حكامًا ومعارضين، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين.

كانت الفجيعة الأولى سنة 1967، ثم كرت السبحة، وباسمة تستعيد بأسى سنوات إيفا الأخيرة، كانت تحترق بنيران بلادنا من السودان إلى ظفار إلى بيروت إلى … بيروت بخاصة، بيروت شر الختام أو مسكه، وفي كل عرس بات لإيفا قرص.

ج- عليّ أن أعترف أن كل ما سقته لا يكفيني، ولا يرضيني، كنت أعيش مع إيفا، مع باسم، كنت أعيش اليوم بسنة، والسنوات بيوم، ولم يكن في هواجسي شيء اسمه الوثيقة، بل إنني غالبًا ما أخلط الوثيقة بالخيال.. الحياة ليست بالنسبة لي وقائع فقط، والموت أيضًا، التاريخ نفسه.. التاريخ والحياة أليسا أغنى وأصدق من الوثيقة؟ ولو لم يكن الأمر كذلك لكان على المرء أن يعيش على نحو آخر.

كان عليّ أن أسأل باسمة عن سنواتها في عمان قبل أيلول 1970 وبعده. عن سنواتها في بيروت قبل 1982.. كان عليّ أن أعرف على الأقل بدقة اسم المنظمة التي انتمت إليها إيفا. كان عليّ أن أعرف ما فعلته «باسمة» في تونس…كان…»18. حضور نص الإهداء في هذه الوحدة السردية لم يتمثل بنصيته فقط، لأنه تجاور مع حضور نص الاستهلال المتمثل باسم الشخصية الروائية «إيفا»، وقد تجلّى بمظاهر حكائية عدة، بفعل:

* سعي السارد إلى تقصي أخبار «إيفا» و«باسمة» و«باسم» خلال زيارته لبيروت، والتعبير عن إحساسه بالخيبة، لأنه لم يجد شخصًا التقى بـ«باسمة» و«باسم» في المجال اللبناني المعروف بالكفاح الفلسطيني واللبناني المسلح.

* مباركة «إيفا» زواج ابنتها «باسمة» من «باسم»، وازدياد يقينها في أن «باسمة» ستكمل دورها في مناهضة النازية الجديدة.

* إحساس السارد بالعجب والإكبار لــ«إيفا» و«باسمة»، لأنهما حوّلتا شعار الأممية والإنسانية إلى سلوك ملموس يمتاز بالحيوية والفاعلية.

* تقديم «إيفا» رؤية موضوعية عن إظهار قدرات العرب في حال توحدهم بفضل توفر عاملين يمتازان بالقوة «البشرية»، و«النفطية».

* التعبير عن احتراق «إيفا» بنيران البلاد العربية المشتعلة بدءًا من حرب 1967 وتعرفها إلى المقاوم الفلسطيني «باسم»، وانتهاءً بوجود المقاومة الفلسطينية في تونس بعد خروجها من بيروت.

* اعتراف السارد بأنه قصّر في عدم معرفة بعض الحقائق اللازمة المتعلقة بـ«إيفا» و«باسمة».

والملاحظ في هذا الحضور أن المادة الحكائية التي عرضها السارد تمتاز بالغنى والتنوع والجريان في مدى مكاني متسع شمل الوطن العربي؛ لأنها تشكلت من أهم الأحداث الكبرى التي عصفت بالمنطقة العربية بدءًا من ظهور النفط وانتهاءً بوجود القيادة الفلسطينية في تونس بعد إكراهها على الخروج من بيروت. وقد عرضها مستعملًا تقنية الاسترجاع الحكائي، وقصده من عرضها إشباع رغبة المتلقي في معرفة ماهية مواقف «إيفا» مما حدث في الأقطار العربية قبل لقائها بـ«باسم»؛ لكونها مناضلة ثورية ذات نزوع إنساني وأممي.

وأن تجاور النازية الألمانية والنازية الجديدة المتمثلة بالعدو الإسرائيلي في سياق حكائي محدد جعل قضية الكفاح الوطني تأخذ سمة تدل على الاستمرارية بفضل تواتر الأجيال المتعاقبة عبر الزمن، لخلق صورة قاتمة في وعي المتلقي بمجرد تلفظ هذا الوصف الدال على الظلم والعدوان والقتل والخراب واغتصاب أراضي الآخرين، بهدف تحفيزه على اتخاذ موقف حضاري من الموصوفين بهذه السمة القبيحة.

والسارد حين أعلن تقصيره بعدم معرفة بعض الحقائق الهامة التي تستوقف المتلقي، وتجعله يتساءل عن ماهيتها، وكيفية وقوعها؛ لأنها جزء أساس من الأحداث الروائية المسرودة عن الشخصيتين الروائيتين: «إيفا» و«باسمة» مستخدمًا تقنية الاعتراف الذاتي- تمكّن من تحقيق هدفين هما: خَلْقُ عذر أخلاقي لتقصيرهن وسد ثغرة حكائية طرأت على المسار السردي وإزالة التساؤل المتعلق بينهما من وعي المتلقي. هذا الاشتغال علامة على نضج الوعي السردي الذي يمتاز به السارد في هذا النص الروائي، وهو في الوقت نفسه عامل تشويق حكائي للمتلقي، يجعله يتابع تلقي أبعاد الحكاية باهتمام قرائي؛ ليتلمس منها أجوبة عن تساؤلاته، مما يكسب النص الروائي على مستوى التلقي بعدًا جماليًّا.

والسارد باعترافه الصريح أنه عاش مع هذه الشخصيات الروائية بطريقته الخاصة الناهضة على الخلط بين الوثيقة والخيال، لاعتقاده أن التاريخ والحياة أغنى وأصدق من الوثيقة، قد قدّم رؤيته في عرض الحكاية إلى المتلقي، وهذا الاشتغال علامة على امتزاج الوقائع بالتخييل امتزاجًا جماليًّا شكل العالم الروائي ومنحه السمة الإبداعية، رغم أن مادته الجوهرية استقيت من الواقع، وهذا دليل على جدل العلاقة التفاعلية بين المرجع/الواقع وفعل السرد الروائي الدال الذي حفظ للرؤية الذاتية بعدها الواضح في تشكيل العالم الروائي الذي لم ينبع إلا من تصورات موضوعية، هي نتاج «التراسل بين الحكي الروائي والواقع، فكل يَرد ما يتضمنه إلى الآخر مانحًا إياه خصبًا في الدلالة، وغزارة في الإيحاء»19. وقيمة هذا التراسل تكمن في خلق التجليات الجمالية للواقع كما يجب أن يكون. وبتحققه، يتمكن النص الروائي من إنجاز وظيفته الريادية، وهي ذات طابع جمالي بامتياز.

وهو في بنائه لشخصيات الرواية سعى إلى جعل عُرى التلازم بين أقوال الشخصيات وأفعالها تتصف بالمتانة والانسجام وإنجاز المراد، وبذلك تمكّنت من تحقيق مبدأ الصدق في القول والفعل، وهو ذو قيمة أخلاقية ماثلة في الوعي الجماعي. ولأن القيمة الأخلاقية التي آمنت بها هي الكفاح الوطني ضد الظلم والعدوان، وعملت على تجسيدها سلوكيًّا، صارت مثلًا أعلى، ثبتت عليه عبر توارد أبعاد الحكاية على المسار السردي، مما أعطاها مكانة حضورية مميزة في وعي المتلقي؛ لأن الإنسان النقي بطبعه يعشق البطولة الوطنية، وهذا ما يفسر لنا أحد مقاصد إبداع هذا النص الروائي.

ولذلك يمكن القول: إن التعرف على هذه الشخصيات الروائية في اتساقها الناهض على تيمة الكفاح الوطني هو إدراك لأحد عناصر البنية الروائية المتعالقة مع باقي المكونات الحكائية التي تكوّن بنية النص الشكلية، وهو تفكير في المسار الذي يسمح للنص الروائي بالتحول إلى شكل قابل للإدراك20 الذي هو معرفة الكيفية التي تتجلى صورة العالم بمن فيه، وما فيه داخل النص الروائي، وهو من هذه الزاوية يتشابك مع وضعية السارد داخل منظومته السردية ووضعية الشخصيات في علاقاتها مع بعضها ومع باقي المكونات الحكائية الأخرى21. وكلُّ هذا يقر بوجود علاقة كائنة بين ملامح الشخصيات ووظائفها، ورؤية السارد لها يمكن وصفها بـ«التناغم التلقائي»، وبهذا التناغم تمكّن نبيل سليمان من بلورة أحد الأصول الجمالية لإبداعه الروائي.

وما أود قوله: هو أن الحكاية في هذا النص الروائي نهضت على أحد مظاهر الواقع العربي والدولي، وهو السياسي، واتصفت أبعادها بالتنوع؛ لتتمكن من استيعاب هذا المظهر بمختلف تجلياته قدر الإمكان. وأهم مزاياه هو الأيديولوجي؛ لكونه يمثل مجموع القيم، ونمط الوعي الذي يتحلى به الروائي نبيل سليمان على مستوى رؤيته للواقع المحيط بالإنسان العربي. وعلى مستوى ممارسته الإبداع الروائي، والحكي «الأكثر تَأَدْلُجًا هو ما كان معبرًا عن الأيديولوجيا بطريقة جمالية وأدبية»22.

وتعد تيمة الكفاح الوطني جوهر هذه الأيديولوجيا، ولذلك استحوذت على حيز وافر من الحكاية، وهي ناتجة عن اهتمام الروائي بتجليات الواقع السياسي الذي يتجلّى بمظاهر سلبية عدة، ولذلك عمل على تجسيده بهدف انتقاده بطريقة إبداعية، متخذًا منه موقفًا عدائيًّا واضح الملامح ليحقق مقصدين: الأول تأكيد دور إنكلترا في استنزاف ثروات الخليج العربي في فترة زمنية محددة، وسعيها إلى إعاقة أية نهضة تنموية فيه، وإظهار غزو الولايات المتحدة للمنطقة العربية متخذًا المظهر الاقتصادي، وقتل أي مسؤول عربي يسعى إلى توحيد البلاد العربية. والثاني الرغبة في تغييره؛ لأن الحكي الروائي حياة داخل فضاء اجتماعي تاريخي، له أبعاده وخصائصه. وحين يمارس الروائي عملية الحكي الروائي بواسطة السارد، فإنه يسعى إلى تغيير ما هو كائن؛ لكونه يتنافى مع حق الإنسان في عيش حياة آمنة وكريمة تليق به بصفته مركز الكون. وهذا المقصد النبيل نتاج علاقة الروائي المباشرة بالواقع، لأن «الواقع المادي بأشيائه وأناسه وذواتهم يؤثر في الإنسان، فيحمله على الكلام، كما يحمله هذا الكلام بدوره على الكلام الذي يتحول إلى كتابة، للتعبير عن هذا الواقع المادي»23.

وإبداع هذه الرواية على الرغم من كونها متحت مادتها الحكائية من الواقع الموضوعي، وأخذت على عاتقها صياغة الواقع بكل مظاهره ومعطياته الموضوعية والذاتية، فإنها عرضت نموذجًا إنسانيًّا أخذ على عاتقه قضية الكفاح الوطني مسألة وجود ومصير، ومع تعاقب الزمان وامتداد المكان نقلها من الحيز المحلي إلى المستوى الأممي الإنساني، ويمثل هذا الإنسان الشخصيتان الروائيتان: «إيفا» وابنتها «باسمة»، وجاء «الولد الفلسطيني/ باسم» حاملًا هذه القضية، وجسدها عمليًّا.

 

 

الخاتمة:

من خلال الاشتغال على نص الإهداء أقول: إن امتلاء الحكاية بالأحداث الروائية التي أسندها السارد إلى هذه الشخصيات، وأنجزتها باقتدارٍ مقنع للمتلقي، واستحوذت على الحيز الأكبر من المساحة السردية- يفسر لنا مجمل الحوافز التي دعت الروائي نبيل سليمان إلى إهداء روايته لـ«باسمة» و«الولد الفلسطيني/باسم»، وإهداؤه لهما ليس مجانيًّا، بل هو نتاج استحقاق عن جدارة بخلاف باقي الشخصيات «وفيق» و«إيفون». وهذا الاستحقاق يمثل أحد الأبعاد الجمالية التي يتصف بها نص الإهداء.

وهو في الوقت نفسه يمثل أحد الخيوط الخفية التي عملت على ربط نص الإهداء بالحكاية والمكونات الحكائية التي تشكّل بنية النص الروائي الشكلية، وقيمة هذا الاشتغال الذي أنجزه نص الإهداء تكمن في جعل التواصل بين خارج الحكائي وداخل الحكائي مستمرًا خلال نهوض السارد بعرض الحكاية على المسار السردي. فامتداد نص الإهداء إلى مسارب الحكاية وتنويعات السارد الاشتغالية مقتضى رؤيا إبداعية، تميّز بها الروائي نبيل سليمان، وجعلت مقاصد الحكاية جزءًا حاضرًا في وعي الذات المتلقية. وهذا الحضور القيمي علامة على اكتساب النص الروائي قيم التجربة الجمالية للقراءة.

المصادر والمراجع:

أولًا: المصدر:

– سليمان، نبيل: قيس يبكي، دار الحوار، اللاذقية، الطبعة الثالثة، 2013.

ثانيًا: المراجع:

1- إبراهيم، د. عبدالله: السرد والتعارضات الدلالية في رواية «أوبرج السعادة»، الحياة الثقافية، وزارة الثقافة، تونس، ع82، السنة 22، 1997.

2- أحمد، د. مرشد: البنية والدلالة في روايات إبراهيم نصر الله، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2005.

3- أحمد، د. مرشد: مبادئ التحليل الأدبي، دار الفرقان للغات والآداب، حلب، الطبعة الرابعة، 2016.

4- أزرويل، فاطمة الزهراء: مفاهيم نقد الرواية بالمغرب، الفنك، الدار البيضاء، بلا تاريخ.

5- بنكراد، سعيد: شخصيات النص السردي، البناء الثقافي، كلية الآداب، جامعة المولى إسماعيل، مكناس، 1994.

6- بلعابد، عبدالحق: عتبات، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، دار الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى، 2008.

7- الدغمومي، محمد: الرواية المغربية والتغير الاجتماعي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1991.

8- سويرتي، محمد: النقد البنيوي والنص الروائي، ج1، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1991.

9- صبرة، أحمد: جوانب من شعرية الرواية، مجلة (فصول)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، المجلد 15، العدد 1، 1997.

10- الصبيحي، محمد الأخضر: مدخل إلى علم النص، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، دار الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى، 2008.

11- عونية، رحمة أحمد: شعرية السرد الروائي (نماذج من الرواية الجزائرية الحديثة) رسالة دكتوراه، كلية الدراسات العليا، الجامعة الأردنية، عمان، 2001.

12- غولدمان، لوسيان: مقدمات في سوسيولوجيا الرواية، ترجمة بدر الدين عرودكي، دار الحوار، اللاذقية، الطبعة الأولى، 1993.

13- منصر، نبيل: الخطاب الموازي للقصيدة العربيّة المعاصرة، دار توبقال، الدّار البيضاء، الطّبعة الأولى، 2007.

14- مؤنسي، حبيب: فلسفة المكان في الشعر العربي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001.

15- يقطين، سعيد: عتبة إلى العتبات، مقدمة كتاب عتبات لعبد الحق بلعابد، الدّار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى، 2008.

تصفح العد
شارك
مجلة سرديات
أكثر من خمسون رواية مسموعة من إصدارات كتارا.